السيد.. بين المرشد والأستاذ!

TT

لا جديد في هذه الحرب الطويلة بين معسكر إيران والمعسكر العربي ممثلا بمصر والسعودية، حرب معقدة ومركبة من السياسة إلى الدين إلى الثقافة إلى الإعلام، وآخر فصول هذه الحرب ما تكشف عن زرع حزب الله لخلية تابعة له داخل الأراضي المصرية، باعتراف حسن نصر الله نفسه، وإن قلل من قيمة رئيس الخلية بوصفه «عتال».

البعض من الميالين للطرح الإيراني السوري، ومن يدور في فلك هذا الطرح من أحزاب وحركات، يرى أن الحديث عن حقيقة الخطر الإيراني على مصالح الدول العربية ومدى إمساك هذه الدول بملفاتها الأمنية الكبرى في الإقليم، يرى أن هذا التحذير من الخطر الإيراني مبالغ فيه، إن لم يكن وهما وفزاعة يستخدمها أعداء الأمة العربية لخلق عدو وهمي بعيدا عن العدو الإسرائيلي، فلا عدو للعرب ـ عند هؤلاء ـ إلا إسرائيل وأمريكا طبعا، وآخر هذه المرافعات المكررة من محازبي ومثقفي المعسكر الإيراني السوري، ما كتبه أحدهم من لندن، من وراء البحار العربية، معلقا على اتهامات النائب المصري العام لحزب الله وأمينه العام بزعزعة الأمن في مصر وزرع خلية تأتمر بأمر الحزب نفسه، ومؤكدا على أن النظام المصري يريد «افتعال» معركة مع حزب الله، وحزب الله لا يبيت شرا للمحروسة، حسب تعبير الكاتب، وذكر كاتبنا الثوري بأن بريطانيا على جلالة قدرها بدأت تغازل حزب الله واستقبلت مسؤول قناة المنار فيها وأحد أعضاء المكتب السياسي للحزب «الإلهي»، فلماذا لا تمشي مصر مع بريطانيا؟

الحق أن لحزب الله اللبناني عداء واضح مع مصر، وهذا الحزب هو جزء من منظومة القوة الخمينية في العالم الإسلامي، عقائديا وإعلاميا، باعتراف زعيم الحزب نفسه الذي قال في لحظة حماسة إلهية سابقة إنه يفخر بكونه جزءا من حزب الولي الفقيه، هذا الحزب يعيش حالة حرب مع دولة مصر، ولا تنفع هذه الحيل اللفظية في مديح الشعب المصري ومحاربة دولته، فهل يرضى حسن نصر الله وأمثاله من أتباع حزب الولي الفقيه بأن تأتي جهة ما تحارب النظام السياسي في إيران، وفي نفس الوقت تمدح الشعب الإيراني والحضارة الفارسية؟ طبعا لا، ولكن ذلك كله يدخل في إطار خطاب المغالطات والبلاغات المجازية.

هناك خلافات حقيقية بين رؤيتين واتجاهين في المنطقة، كما قال بصدق الرئيس السوري بشار الأسد، فالكلام إلى هذا الحد صحيح، ولكن توصيف هاتين الرؤيتين وتحديد ملامح ومعالم هذين الاتجاهين، هو الذي يحصل فيه الخلاف والتضاد في الفكر والصورة بين معسكر إيران ـ سوريا والمعسكر العربي عبر دعامتيه المصرية والسعودية، فالخلاف بين الرؤيتين، هو بين الاستقرار والفوضى، وهذا توصيف ربما يكون أفضل من توصيفة أو ثنائية: الاعتدال والممانعة، فإيران ومن معها لديهم هدف حقيقي في نشر الفوضى الأمنية والسياسية وخلط الأوراق وإرباك الدول العربية وإجبارها على التناغم مع التصور الإيراني للوضع القائم والتماشي مع الاقتراح الإيراني للحل، فالمشكلة في نظر إيران هي في عدم تمكينها من بسط نفوذها مستخدمة نشر أفكارها الثورية والخلاصية التي هي أمل الشعوب وصيحة المستضعفين ولا حل إلا عبر «الذوبان في الخميني كما ذاب الخميني في الإسلام» حسب العبارة الشهيرة التي أطلقها مؤسس حزب الدعوة العراقي وصديق الخميني محمد باقر الصدر.

إذن هو خلاف بين رؤية إيران وتشخيصها للمشكلة في الشرق الأوسط ومن ثم مقترحها للحل، ومن البداية الدول العربية المعنية لا توافق على ترك إيران تبشر بثوريتها في المناطق العربية من أجل خلق حقل خصب لغرس البذور الخمينية حتى تطلع أشجارا شاذة وغريبة التوصيف مثل حالة حزب الله «الخداج» في لبنان الذي هو حمل خارج رحم الدولة والقانون.

ورغم المقاومة العربية «المتأخرة» للهجمة الإيرانية الأصولية، فإن هناك رصيدا لا يستهان به لمعسكر إيران في العالم العربي خصوصا في مصر والأردن، وكلنا يتذكر كيف اصطفت جبهة العمل الإسلامي ( ذراع الإخوان السياسية في الأردن) وجماعة الإخوان في مصر مع حزب الله حينما هجم على بيروت الغربية.

إيران لدى هؤلاء هي دولة صادقة في مساندة القضية الفلسطينية، وعند بعض فلاسفة هذا المعسكر في مصر، إيران، كما يقول حسنين هيكل، هي الدولة الوحيدة الحضارية والمهمة في المنطقة، مع مصر، والبقية من مصر إلى إيران ليسوا إلا «فكة عدد» أو مجالا لتمظهرات هذه القوة والفيضان الحضاري المصري والفارسي، لذلك فلا معنى لهذه الخصومة «المفتعلة» بين إيران ومصر، حسب رأي «الأستاذ» أو رأي, الأستاذ الآخر, صاحب المقالات اللندنية الثورية الذي يرى أنه لا خصومات حقيقية بين مصر وحزب الله.

بعض هذا التشجيع والانحياز لإيران وحزبها في لبنان وحركتها في غزة راجع إلى أسباب التشابه الآيديولوجي في بناء الخطاب السياسي الأصولي، كما هي حالة الإخوان المسلمين ، الحركة الأم لحماس، والحركة التوأم للتيار الخميني، فالإخوان المسلمون هم خمينيو السنة، والخمينيون (حزب الدعوة وحزب الله ومجلس الحكيم.. الخ) هم إخوان الشيعة، وولاية الفقيه عند الأصولية الشيعية المسيسة، هي نظرية الحاكمية عند سيد قطب الإخواني، و«الحكومة الإسلامية» لدى الخميني، هي الدولة الإسلامية لدى الإخوان المسلمين، وأبعد من هذا، حتى نفهم لماذا مهدي عاكف مرشد الإخوان في مصر غاضب من إعلام مصر الناقد لحزب الله حاليا، نتذكر «صلة الرحم» بين الإخوان المسلمين والتيارات الخمينية الشيعية.

الجامع المشترك بين من ثور الإسلام السني ومن ثور الإسلام الشيعي ووضع له برنامج تفعيل سياسي لمفاهيمه الأصولية، هو التركيز على الشأن السياسي وتسخير الجهود الأخرى اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا لخدمة «عقيدة» الحزب حتى يصل إلى الإمساك بقرون الدولة. وقد ذكرت في مناسبة سابقة، كيف أن حزب الدعوة العراقي في الخمسينات كان مثالا واضحا لهذا التشابه في الخيال والرؤية بين الإخوان والأصولية الشيعية المسيسة التي وضع الخميني عليها ميسمه لاحقا، لدرجة أن بعض قادة حزب الدعوة كانوا أساسا عاملين في حزب التحرير العراقي الذي أسسه سني فلسطيني، منشق عن الإخوان، هو الشيخ تقي الدين النبهاني، والسبب في هذا التدفق أو سهولة الانتقال من حزب التحرير أو الإخوان السنيين إلى حزب الدعوة الشيعي، هو مساحة التفكير والأحلام الآيديولوجية السياسية المشتركة، وقد كان من مؤسسي حزب الدعوة (الذي ينتمي إليه نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي) الشيخ عارف البصري، وهو ناشط أصولي شيعي، أتى إلى حزب الدعوة من حزب التحرير السني. ويخبرنا الكاتب البحريني، منصور الجمري، عن أن شخصيات شيعية إسلامية عراقية التحقت بحزب الدعوة بعدما كانت تعمل في كنف جماعة الإخوان المسلمين في العراق كما في بحثه (صفحات من تاريخ الحركة الإسلامية البحرينية من «الدعوة» إلى «أحرار البحرين» إلى «الوفاق»). المنشور في جريدة «الوسط». ويذكر الشيخ السوري، القريب من الإخوان، علي الطنطاوي في مذكراته كيف احتفى الإخوان السوريون بالناشط الإيراني الأصولي الثوري، نواب صفوي، زعيم حركة «فدائيان مبارز» حينما قدم للشام، وهو ـ أي صفوي ـ كان السلف الفكري والسياسي للخميني. وقد ذكره الخميني كثيرا في خطبه بعدما عاد إلى طهران منتصراً.

لا غرابة ، إذن، في أن أن يؤيد مهدي عاكف إيران الخمينية وحزب الله التابع لنظرية الولي الفقيه، فهما يغرفان من نفس البئر الفكري السياسي، كل بدلوه الخاص طبعا، فهو تارة دلو سني ومرة شيعي، لكن الماء واحد!

الغرابة في تأييد جماعات قومية عروبية للحزب الإيراني والمشروع الإيراني الخميني، هذه الجماعات القومية التي كانت تهتف لصدام حسين بوصفه حامي البوابة الشرقية وحامي العروبة، وهم من قبل كانوا يقدسون جمال عبد الناصر، موضع الغرابة هو في كيفية الجمع بين مناصرة مشروع مضاد للقومية العربية ومناف لها، بالتعريف والضرورة، وبين الحماسة القومية العربية واتهام من يقاوم المشروع الإيراني بخيانة العرب والعروبة!

تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار. كما قال حكيم المعرة.

بين سماحة «السيد» حسن وصراحة «المرشد» مهدي وتأملات «الأستاذ» هيكل.. لا بد أن هناك صورة ضائعة للحقيقة.

[email protected]