سياسات الدول حينما تخترقها مواقف الجماعات

TT

معروف أنه تسود بين المغرب وإسبانيا علاقات معقدة، إذ يتعلق الأمر ببلدين يبدأ حوارهما بأشياء تنبع من التاريخ البعيد والقريب، وتحركهما أشياء تنبع من الحاضر بأبعاده السياسية والاقتصادية والأمنية.

ومنذ استتباب الديموقراطيا في إسبانيا، ساد اعتقاد ازداد رسوخا مع السنين، بأن تداخل المصالح فيما بين الرباط ومدريد يفرض التسليم بأن كل طرف يجب أن يتحمل الآخر، وأن كل طرف لابد أن يسهل على الآخر أن يكون شريكا آمنا ونافعا. وهذا ما يعرف بالتبعية المتبادلة، وهي العبارة التي يمكن أن تترجم بها في العربية أنطير ديباندانس. فالصين لديها سندات دين أميركية، وكمية من الدولارات هائلة، لو أنزلتها إلى الأسواق لأحدثت زلزالا لا تطاق عواقبه، ولكنها لن تصنع لأنه من مصلحتها أن لا تنهار الولايات المتحدة.

وقد اهتدى المغرب وإسبانيا منذ نحو عقدين ونيف إلى وضع علاقاتهما في فلك التبعية المتبادلة، أو قل الترابط. وظهرت صعوبات. وواجهت حكومة إسبانيا وذوو القرار الاقتصادي من القطاع الخاص فيها، الانتقادات التي ظهرت دائما في الشارع كلما ظهر أن هناك تنازلا يتم لصالح المغرب. وحجة المسؤولين في الإقناع هي أنه كلما تخفف المغرب من ضغوط الضيق الاقتصادي أصبح جارا آمنا. وعلى سبيل المثال فبخصوص الهجرة، استقر الآن في الأذهان أنه كلما استثمرت إسبانيا في المغرب، اتسعت فرص خلق مناصب الشغل في عين المكان، وكف أو قل عدد المهاجرين منه إلى إسبانيا طلبا للشغل. بل إن كاتب دولة في الخارجية في حكومة أثنار الكاتلوني ناضال كتب يقول إنه لأسباب عملية يجب ألا يفرض على المغرب حظر في تصدير منتجاته من المواد الفلاحية والنسيج، لأن هذين المرفقين هما الأقدر على خلق فرص الشغل الكفيلة بامتصاص الفائض من اليد العاملة، التي حينما تسد أمامها الآفاق تبحث عن فرص الشغل في الخارج.

واستقرت هذه النظرية في اقتناعات سياسيي البلدين، إلى حد أن إسبانيا والمغرب عملا معا، على جمع البلدان الإفريقية المصدرة لليد العاملة، في مؤتمر مشهود بالرباط، كان قد أسفر عن اتفاق الأوربيين والأفارقة على شيئين، الأول هو أن الاستثمار في الدول المصدرة هو الكفيل بالحد من الهجرة، والثاني هو أن الهجرة مقبولة إذا كانت منظمة، وبذلك يقع الحد من الهجرة غير القانونية، التي تتسبب في مآس يجر إليها المتاجرون بتهريب البشر.

وما أسهل ما تظهر ارتسامات متشائمة في إسبانيا بشأن العلاقات مع المغرب، وإلى حد كبير كان ذلك مع البرتغال قبل انضمام البلدين الإيبيريين إلى السوق الأوروبية المشتركة.

ففي استطلاع للرأي أجراه معهد البحوث الاجتماعية الإسباني CIS في 1995 كان 71% من الإسبانيين قد صرحوا بأن اضطراب الأوضاع في الشمال الإفريقي يمثل التهديد المباشر للأمن في بلادهم. وكان ذلك الاستطلاع قد أجري بالذات في الوقت الذي طرأ تحسن هام جدا في العلاقات بين المغرب وإسبانيا، على إيقاع الاتفاق الشراكة الاستراتيجي الذي وقعه المغرب مع السوق الأوروبية المشتركة، والذي كان منبئا باتجاه المغرب نحو مزيد من التقارب مع أوروبا، في غمرة الإصلاحات التي أقدم عليها الحسن الثاني.

وفي 2002 أجري استطلاع آخر أتى بمعطى أكثر تحديدا، إذ صرح 67 % من الإسبانيين بأن المغرب بالذات هو التهديد المباشر لأمن إسبانيا. وكان هذا وذاك يعكس انشغالا مهولا بأن يكون مصدر الخطر هو بلدان مجاورة، في حين أن ما هدد الأمن الداخلي في إسبانيا بالفعل حينئذ، كان عنصرا داخليا، وهو إرهاب منظمة إيطا.

وربما كان وراء ذلك الشعور بخطورة الجيران، حادث فندق أسني بمراكش الذي ذهب ضحيته سواح إسبانيون، ثم بعد سنين، حادث قطارات مدريد. ولكن دلت الأحداث على أنه رغم ذلك التكهن القوي لدى رجل الشارع، بإتيان الخطر من الجنوب، فإن العلاقات الودية والتعاونية، بل والتشاركية بين المغرب وإسبانيا، ارتفعت وتيرتها بكيفية ملحوظة جدا فيما بعد الاستطلاعين.

واستمر المغرب يحتل مرتبة مرموقة كشريك جدير بالثقة لإسبانيا، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية. وبعد أكثر من عقد من الزمان من تلك التكهنات المتشائمة، ارتفع التبادل التجاري بين المغرب وإسبانيا، عشر مرات، ومن صفر تقريبا أصبحت هناك 800 مقاولة إسبانية في المغرب، وأبرمت اتفاقات عديدة سواء مع حكومة اليمين أو مع حكومة اليسار. وأصبح المغرب يمثل 49 % من تجارة إسبانيا مع شمال إفريقيا، أي أن تكهنات رجل الشارع كان يشوبها تهويل لم تصدقه التطورات الحاصلة فعلا في المدة التي تلت نشر الاستطلاعين المشار إليهما.

ولا شك أن تلك التكهنات المتشائمة هي من صنع خيال متأثر بعوامل موروثة عن التحفظ الذي ساد قرونا فيما بين الضفتين، ولكن للإعلام المكتوب منه على الخصوص، وبالذات في الضفة الشمالية، دوره المؤكد في تنمية التحفظ بل والشعور بالاستهانة بالجار الجنوبي وتقديمه على أنه الشيطان المجسم.

وبالإضافة إلى الإعلام، هناك عمل جماعات المجتمع المدني التي أصبح لها في دولة القانون كما هو الحال في إسبانيا دور لا يمكن القفز عليه. فهذه الجماعات المتنوعة المشارب، ولوعة بالإقدام على مبادرات تحدث ضجيجا، وتضمن حضورا في أجهزة الإعلام، ويكفي بعض النشطاء تحقيق صدى إعلامي لمبادراتهم وظهورهم في الصور وهم يرسمون بإصبعين منفرجين علامة النصر.

ويفرض النشطاء المتحركون في مختلف المجالات على الدول أن تنتبه إلى مبادراتهم، وذلك باستخدام آليات دولة القانون التي تجبر على التفاعل مع تلك المبادرات وأخذها بالاعتبار. وهذا من مستجدات الحياة العصرية التي جعلت العلاقات الرسمية بين الدول متأثرة بأنشطة متنوعة وبأجندات لم يكن لها وجود فعال من قبل. وقد سجلت «الشرق الأوسط» في الأسبوع الماضي أنه ما اجتمعت، مثل ما هو حاصل هذه الأيام، عوامل توتر كثيرة ومتوالية تنذر بتدهور في العلاقات بين الدولتين.

وفي غمرة ذلك تتحرك جماعات الضغط التي تقتنص الفرص لإثارة الانتباه إلى مطالبها. فقد رابط لوبي شكله سكان مدينة طريفة الإسبانية للحيلولة دون مد خط كهربائي نحو المغرب عبر مضيق جبل طارق، رغبة في ممارسة الضغط على الحكومة المركزية بمدريد من أجل تلبية مطالب محلية لهم كانت معلقة، واغتنم اللوبي فرصة صفقة مع دولة أجنبية لجر حكومة بلادهم إلى التفاهم معه.

وهو نفس ما يسعى إليه اليوم منتجو الطماطم في ألميرية، جنوب شرقي الأندلس، الذين يحدثون ضجيجا كبيرا للاحتجاج على وفرة الطماطم المغربية في الأسواق الأوروبية، في حين أنهم إنما يضغطون على حكومتهم من أجل منحهم بعض الإعفاءات. وأما كمية الطماطم المغربية المسموح بطرحها في أوروبا فلابد أن تتغير، لأن ما كان يباع في سوق تتكون من 15 دولة يمكنه أن يتطور حينما يصبح عدد الدول هو 27 دولة.

لقد أصبحت العلاقات المبرمة فيما بين الدول قابلة للاختراق من قبل جماعات لها أجندتها الخاصة، ولها حركيتها المستقلة عن باقي المؤسسات. وهناك اليوم تحديان جديدان، أمام المغرب وإسبانيا الأول هو تكيف العلاقات الدولية مع وجود فاعلين جدد وآليات جديدة أصبح لا مناص بأن تؤخذ في الحسبان، والثاني هو تحمل المطبات التي ينذر بها اجتياز عواقب الأزمة المالية التي تعم العالم.