تايتانيك.. لا تنسوا للشبيبي معلقته!

TT

لمحت خبرا في «الشرق الأوسط» (1 أبريل 2009) مفاده: أن مدينة (ساوثامبتون) البريطانية تستعد لافتتاح متحف، لمئوية الباخرة تايتانيك، التي أبحرت منها، في أول رحلة لها، قاصدة نيويورك. وكانت الكارثة في عرض الأطلنطي (15 أبريل 1912). وقيل كانت كالقصر العائم، لسعتها وارتفاعها، وأنواع درجاتها على قدر طبقات المسافرين.

كان بريد العراق، آنذاك، يعتمد على مطايا البريد العثماني، غير المنتظم إلى بغداد، فكيف بالنجف! ولا نظن أن أحدا، من خارج العراق، أبرق للشيخ محمد رضا الشبيبي (1889 ـ 1965) بنبأ الباخرة، وغرق ركابها في المحيط العظيم، ما لهم «سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان»! كذلك لم تذكر «لغة العرب» (1911 ـ 1931)، وصاحبها الأب الكرملي (ت 1947)، عند نشرها رثاء الشبيبي، تحت عنوان «تيتنيك» (بعد أربعة شهور من غرقها)، شيئا عن الواقعة، وهي اعتادت الإخبار عن وقائع الشهور، الجسيمة منها والهينة!

إن رثاء الشيخ الشبيبي لمختلف أجناس الناس، وهو لم يتخل عن عمامته البيضاء الضامرة حتى وفاته، وفي ذلك الزمن، له مغزى في عتمة الزمن الحاضر، حين يصل الحال بطبيبة أن تستفتي مرجعها، الذي تقلد، هل يجوز إسعاف جارها غير المسلم! وآخر يستفتي مرجعه، الذي يقلد، هل يجوز معايدة جاره غير المسلم بأعياده! أقول هذا، من دون نسيان ما قام به أصحاب عمائم، من دخول الكنائس، ببغداد، في الميلاد الماضي، لمعايدة مواطنيهم بأعيادهم. فلو خليت قلبت! لكن، أن يصل الحال بأطباء عاشوا بأوروبا، وأخذوا العلم منها، أن يستفتوا في مسألة نجدة الجار أو معايدته، وأن طبيبا يكتب كتابا (أكثر من 600 صفحة) بطب الخرافة والكرامة! لا يصنف إلا بكارثة حضارية. وما أكثر الأطباء والمهندسين ممن تقاطعت ثقافات مهنهم مع وعيهم، حتى حجموا سماحة الدين، على مقاس تخلفهم. لقد وصل الحال بإصرار حامل شهادة (الدكتوراه) الحاسر الرأس، ورئيس جماعة بيدها تربية وتعليم العراق، على تفعيل حد قطع يد السارق والسارقة، في قاعة البرلمان، بينما فقيه، من معتمري العمامة، يجهد لحذف الحد، وحجته أن الزمن، وحال الناس لا يبررانه!

لا نعلم عن وسيلة وصول نبأ فاجعة الباخرة إلى مسامع أديب النجف وشاعرها، وهو آنذاك لم يبرح أرضها، فكانت للأنباء قيمة لشحها ووعورة سبل وصولها، ولشحة الخبر، عد ما ينقله الجنازون مصدرا، على أنهم لقرون مثلوا لوادي الغري وكالة أنباء.

كتب جعفر الخليلي (ت 1985): «كان المنبع الآخر، بعد البريد غير المنتظم، الذي تستقي منه هذه المجالس أخبارها، هم الجنازون. والجنازون هم حملة الجنائز، الذين يأتون بالجنائز من مختلف الأصقاع، وبغاية ما يستطيعون من السرعة، خشية تفسخ الجثث ليدفنوها في النجف، فينقلون ما يعرفونه من أخبار أصقاعهم ومواطنيهم» (هكذا عرفتهم). ومع تناقل الأخبار من لسان إلى لسان، يحدث التضارب والتناقض، وفي المجالس تنقد الأخبار، وتؤخذ المعقولات، أما سواها فيسري لطائف على ألسنة النجفيين، وهم من أولع العراقيين باللطائف!

ولعل نبأ تايتانيك ورد على لسان جناز ما، أتى من خارج العراق! أو عبر جريدة أو مجلة حملت من أرض الشام، فكانت معلقة الشبيبي، وهي القصيدة اليتيمة، لذلك الحدث، على لسان عراقي! وليس لي علم بشعراء الآخرين. وترى تعاطف الشبيبي، مع الغرقى الغرباء، يكشف عورات شعراء يومنا هذا، ممن تسموا بالكبار، من مادحي صدام وذاميه، عجزا أو تعاليا، والعورة واحدة، لإطلاق معلقة بغرقى مئات العراقيين من الجائعين بإيران، في تايتانيك خشبية (17ـ11ـ2001) أبحروا فيها على خطر، بأمل الوصول إلى شاطئ فيه عدالة وإنسانية!

أكتفي بمطلع «تيتنيك» القصيدة (42 بيتا): «بأبيك أقسم يا ابنة البحر الذي .. وأراك كيف رأيت فتك أبيك». وبالبيت الذي سقط منها، واستدركته المجلة: «كذب الذين دعوك فلكا ما رأوا.. عفر الظباء يحين في واديك» (لغة العرب، المجلد الثاني، 1912، ص 41، و591). هذا، وللشبيبي في المضمار نفسه، غير «تيتنيك»: الثلاثية، نشرها 1912 أيضا في «البيرق» البيروتية: «وأرى من الإنسان أعجب ما أرى.. جنسية منعته أن يتواسى.. لما لا تشبه بالحقول يزيدها.. لطفا تجمع وردها أجناسا.. ياليت من جعل التباين زينة.. للورد قدرها تزين الناسا» (شناوة، الشبيبي في شبابه السياسي)! أظن أن أهل (ساوثامبتون) سيعنون برائعة الشبيبي، ويعلقونها على جدران متحفهم الموعود، فهي من المحاسن النوادر، في زمنها وزماننا، ذلك إذا علمنا أن أحد الحزبيين المتدينين غضب من صاحبه عندما وجده متأثرا لوفاة الراهبة ماما تريزا، معجبا بتفانيها، ومترحما عليها، وهي المتغربة عن بلادها لأجل فقراء الهند! قائلا له: «لا يجوز الترحم عليها». فتأمل..!

[email protected]