حرص أم بخل؟

TT

كثيرا ما شكوت من ظاهرة الغفلة واللامبالاة والسفه الذي ابتلينا به ولمسناه مرارا في حياتنا السياسية والعائلية. وهذا ما أعطانا صنفا آخر من الفكاهة العربية الذي يجعلنا نضحك ونسخر ممن يظهر حرصا في عمله وحياته. هذا ما تتسم به معظم حكايات وطرائف الجاحظ الواردة في كتابه «البخلاء». وفيها يختلط البخل بالحرص. من أشهر هذه الحكايات حكاية معاذة العنبرية. أهداها ابن عمها أضحية، وبدلا من أن تنتعش وتفرح بالهدية، رآها الشيخ مكتئبة حزينة فسألها فقالت: «أنا أرملة وليس لي قيم ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي. وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاه، ولست أعرف وضع جميع أجزائها وأماكنها. وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئا لا منفعة فيه. ولست أخاف من تضييع القليل إلا أنه يجر تضييع الكثير. أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل كالخطاف فيعلق عليه كل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير. وأما المصران فإنه لأوتار المندفة، وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة، وأما قحف الرأس وسائر العظام فيكسر بعد أن يعرق. ثم يطبخ فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام والعصيدة. ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها. فلم ير الناس وقودا أصفى ولا أحسن. وهي أسرع لإنضاج القدر لقلة ما يخالطها من الدخان. وأما الإهاب فالجلد نفسه جراب وللصوف وجوه لا تدفع. وأما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب. بقي علينا الانتفاع بالدم. وقد علمت أن الله عز وجل لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه. وإن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع».

ثم تمضي المرأة فتذكر للشيخ أن هذا كان سر اكتئابها، فلم تجد طريقا للاستفادة من الدم. «فصار كية في قلبي وقذى في عيني وهما يعاودني». ولكنها سرعان ما ابتسمت وزال الهم عنها. تذكرت أن الدم الحار ينفع في تقوية القدور الشامية إذا لطخت به.

قال الشيخ: «لقيتها بعد ستة أشهر، فقلت لها كيف كان قديد تلك الشاة؟». فقالت: «بأبي أنت. لم يجئ وقت القديد بعد. لنا في الشحم والإلية والجنوب والعظم المعروق وغير ذلك معاش. ولكل شيء إبان».

قرأت ذلك فقلت لنفسي، ما أجدر بمدارسنا تعليم ذلك النص للأولاد. على ما قالته هذه المرأة البسيطة يقوم كل كيان الصناعة والتجارة الحديثة. لم يخلق الله تعالى شيئا بدون غرض وفائدة. يا ليت نساءنا تعلمن نتفة صغيرة من حكمة هذه الأرملة العنبرية.

نقول في العراق إذا صادف البدوي أرضا صخرية صلبة نزع خفه ومشى عليها حافيا وهو يقول: «بي ولا بالأحمر». وصارت كلمته مثلا. وعلى غرارها يقول الجاحظ إن المروزيين لا يلبسون خفافهم إلى أن يذهب النبق اليابس حرصا على خفافهم من نوى النبق في الطرق.

ولكل كلمة من كل مقالة فائدة ومنفعة وإبان.

www.kishtainiat.blogspot.com