لماذا الإصرار على شاشات القراءة؟

TT

من المدهش أن نلحظ تحول الرئيس في خطاباته من الملاحظة إلى النكات ثم إلى التذكرة في سرعة بالغة، الأمر الذي جعل باراك أوباما ـ الذي يلقب بأفضل متحدث سياسي في العصر الحالي ـ يعرف برئيس شاشة القراءة.

اكتسبت تلك القضية زخما عندما قرأ رئيس الوزراء الأيرلندي بريان كوين 20 ثانية من الفقرات المخصصة لأوباما على شاشة القراءة في احتفال البيت الأبيض قبل أن يدرك خطأه، واضطرت الحاكمة كاثلين سيبيلس إلى الانتظار في صمت مطبق خلال حفل تنصيبها كرئيس للخدمات الصحية والإنسانية حتى يتم تعديل شاشة القراءة الخاصة بالرئيس أوباما. تلا ذلك استخدام أوباما لشاشة القراءة الكبيرة خلال المؤتمر الصحافي ليلة الخميس. واستهل رون فورنيير من وكالة «أسوشييتد برس» تغطيته للخبر وللمؤتمر بقوله: «ما ذلك النوع من السياسيين الذين يجلبون شاشات القراءة إلى قاعات المؤتمرات الصحافية؟». وأكد أحد التقارير الصحافية الذي صدر مؤخرا أن الرئيس «أوباما لا يذهب إلى أي مكان من دون شاشة القراءة تلك» مسميا إياها «دعامة»، كما تناولت إحدى المدونات الجديدة واسعة الانتشار شاشة قراءة أوباما بصورة ساخرة في أحد الأيام.

لكن إذا ما أردنا أن نلقي باللائمة على فرد بعينه في الاعتماد على تلك التكنولوجيا، فمن الأرجح أن نلقي باللوم على فريد بارتون، الممثل الذي برز في الخمسينات. ويروي الكاتب لوري براون القصة بالقول، إن بارتون كان يعاني من مشكلة في حفظ عدد كبير من السطور المطلوبة للقيام بدور تلفزيوني مباشر، لذا ابتكر شاشة لتحمل النص المكتوب، وهي فكرة تشاركها مع إيرفنغ برلين كاهن (ابن شقيق المؤلف) وهب ساتشلافلي في شركة «تونتي سنشري فوكس». بعد ذلك، استخدم الفكرة الممثل ميلتون بيرلي وممثلو المسلسلات الاجتماعية المختلفة. وفي عام 1952 حصل ساتشلافلي على مكالمة من رجل عرف نفسه ببساطة بأنه «الرئيس» ويرغب في عقد لقاء مع الدورف أستوريا. اتضح فيما بعد أن ذلك الرئيس هو الرئيس الأسبق هربرت هوفر الذي استخدم شاشة القراءة في خطبه أمام مؤتمر الحزب الجمهوري في ذلك العام.

كانت شاشة القراءة بالنسبة للسياسيين على الدوام نقيصة محرجة، إذ كانت تعد كمكافئ سياسي لشراء السجائر و«هاجان داز» ومجلات الـ«بلاي بوي» من المتاجر، وقد اعتمد ذلك الموقف من شاشات القراءة على الاعتقاد بأنها توسع الهوة بين الصورة والحقيقة. وتتضمن نوعا من الخداع. وصحيح أنه غالبا ما يكون هناك فارق بين رئيس قريب من نصه ورئيس بعيد عنه.

الحكم مهنة وليس مجرد موهبة، إذ يتضمن الترتيب الحذر للأفكار والأولويات. وتنظيم الكتابة ـ تعبير عن الأفكار بوضوح ووضعها بترتيب مناسب ـ أمر ضروري للحكم. ولهذا السبب، فإن أعظم القادة في تاريخ أميركا عانوا معاناة بالغة في كتابة الخطابات، فقد كان لينكولن دائم التعديل والتحرير لخطاباته. كما حاول تشرشل الحفظ. وعندما يتطرق الأمر إلى البلاغة، فإن التمكن منها غالبا ما يكون نوعا من التباهي الذي يمارسه السياسيون ممن يستمعون إلى موتزارت بأصواتهم الخاصة، بينما يدرك الآخرون الطنين العشوائي. والقادة الذين يفضلون الحديث من فوق رؤوسهم غير جديرين بالثقة، فهم أكثر «ضحالة» ـ ليسوا أكثر أصالة لكنهم أكثر تنظيما.

كانت تلك هي آخر مساهمات فريد بارتون وشاشة قراءته. وتخدم عملية كتابة الكلمات التي تضع كلمات متوقدة على شاشة القراءة، عددا من الأغراض: كمحاولة عرض صيغ دقيقة لنص يوضح تفكير الرئيس الشخصي، وتسمح لمعاونيه بتقديم مدخلات لتوضيح قضيتهم عبر تحرير الخطاب. والصياغة الأخيرة التي تظهر على شاشة القراءة دائما ما تؤدي بمناقشات السياسة الداخلية إلى إظهار النتائج وفريق العمل الجيد بين الرئيس وكاتبي الخطابات، ويمكن أن تسفر عن خطابات تذكارية ـ وهو نوع من الخطابات تلخص اللحظة التاريخية والتحولية.

هدف أوباما في مؤتمره الصحافي الأخير كان أقل تصعيدا، وهو التعبير عن أفكاره حول الاقتصاد بدقة بالغة، فالرئيس يواجه أزمة يمكن أن يؤدي استخدام كلمات غير واضحة فيها إلى تكلفة ضخمة جدا.

ربما يكون أوباما قد ارتكب خلال فترة التذبذب الأولى التي امتدت لشهرين الكثير من الأخطاء، لكن استخدام شاشة القراءة ليس واحدة منها.

وتمثل شاشة القراءة ارتقاء بالكتابة في السياسة. والكتابة الجيدة لها ميزة المصداقية في حد ذاتها.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»