«أوبامانيا» على ضفاف البوسفور

TT

ربما هي الحاجة إلى الانتقام من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الذي أقحم العالم في أكثر من أزمة وحرب دموية طاحنة، هو ما دفع الأتراك لفتح قلوبهم وعقولهم أمام رجل البيت الأبيض الجديد رغم معرفتهم الكاملة أن سمرة بشرته وحدها لن تقود بمثل هذه السهولة إلى تغيير سياسات الولايات المتحدة الأميركية في أكثر من مكان والتساهل أو التراجع في مسألة أن تكون مصالحها هي فوق أي اعتبار أو مصلحة أخرى.

رغم أن نجم الدين أربكان الزعيم الإسلامي المعارض حذر الأتراك من الوقوع في فخ وضع أوباما يده على أكتاف مستقبليه من المسؤولين الأتراك توددا ومجاملة «الأساس هو ما الذي سيقول وما الذي سيطلبه وكيف سنرد عليه»، فإن أوباما نجح دون أي شك في المساهمة الفعلية في رفع نسبة شعبية أميركا في صفوف الأتراك التي كانت قد تراجعت مع بداية الحرب على العراق قبل 6 سنوات حتى وصلت إلى أدنى مستوياتها العام المنصرم.

لم يحاول إخفاء رجفته عندما أطلقت مدفعية الترحيب قذائفها وهو يقف إلى جانب الرئيس التركي غل، فهو ربما نسي التفاصيل أو أن أعوانه لم يخبروه بذلك مسبقا.

أول المفاجئين كان رئيس بلدية أنقرة مليح غوكشاك الذي صدمته أصلا نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة بعدما تراجعت أصواته بشكل كبير عندما أستوقفه أوباما يستفسر عن سر شبوبيته رغم 4 عهود قضاها في هذا المنصب المرهق، فسارع غوكشاك شاكرا الرئيس الأميركي على التفاتته هذه بالقول إن السر يكمن عند المشرفة على قيادة العمليات في المنزل الزوجة العزيزة التي هي «قد الحمل وزيادة» فأطلق أوباما قهقهة صدحت في المكان غير عابئ بالبروتوكول والرسميات.

مرة أخرى انتزع رجل البيت الأبيض إعجاب الأتراك وتصفيقهم المطول عندما وقف يخاطب النواب تحت سقف برلمانهم يحدثهم عن لاعبي كرة السلة الأتراك في الفرق الممتازة الأميركية الذين ذكر البعض منهم بالأسماء، كونه يتابعهم عن قرب، ولأنه هو أيضا من هواة اللعبة. لكن عبارة النعم التركية التي استخدمها وهو يدافع عن أسباب اختياره لتركيا لتكون أول بلد إسلامي يزوره كانت الأشد تأثيرا في البرلمانيين الذين تدافعوا للتصويت ضد مشروع الوقوف إلى جانب بلاده في الحرب على العراق قبل سنوات.

هو لم يتردد في الإمساك بيد أردوغان مطولا خلال الالتقاء به أكثر من مرة، لا، بل هو لم يكترث للعادات والتقاليد الأميركية وقواعد البروتوكول حتى عندما اقترب يضع على وجنتي أردوغان قبلتي الوداع وهي من النوادر التي يقوم بها رؤساء البيت الأبيض في علاقاتهم مع القيادات والزعامات السياسية.

هو أيضا لم يجد أي حرج في التخلي عن مستقبليه والمسارعة إلى محاصرة القطة «غلي» في متحف «أيا صوفيا» وحملها إلى العالمية عندما أخذ يداعبها أمام عشرات الكاميرات التي كانت ترصد كل شاردة وواردة.

لقد انتقم خلال تجواله في المسجد الأزرق بإصراره على التحرك بالجوارب، محاولا إعادة الاعتبار لسمعة بلاده التي أضر بها السياسي المحنك بول وولفوفيتز بارتدائه جوارب ممزقة خلال زيارته لهذا الصرح قبل سنوات.

وقف يقول لطلاب إحدى الجامعات الخاصة في اسطنبول في حوار مفتوح معهم إن أمامهم فرصة للتحادث حتى وقت أذان الظهر وأن لهم ملء الحرية في قول كل ما يريدون الاستفسار عنه دون أي تردد مظهرا الشجاعة التي فقدها بوش خصوصا في أواخر عهده. حذاء الزيدي وواقعته كانت قد نسيت تماما هذه المرة وفي مدينة مثل اسطنبول شهدت أكثر من تظاهرة ولقاء دولي يعارض سياسة أميركا في العالم.

مهمة شاقة طبعا هي التي تنتظر أوباما إذا ما كان فعلا يريد ترميم جسور العلاقات التركية ـ الأميركية التي أصيبت في العمق وإعادة تحسين صورة بلاده في تركيا والعالم الإسلامي، ونحن نحتاج فعلا إلى المزيد من الوقت للحكم على ما يجري، لكن البداية كانت جيدة على ما يبدو فعفوية طلاب المدارس الابتدائية الذين تسابقوا للتلويح له والهتاف باسمه خلال تنقلات موكبه في أنقرة واسطنبول مؤشر خير وبارقة أمل في أن الإدارة الأميركية التي أعلنت أنها ستمد يدها إلى سعاة الخير والتعاون والانفتاح نجحت في انتزاع ما تريده خلال زيارة الرئيس الأميركي إلى تركيا وبقي أن ننتقل إلى التنفيذ الذي ألمح أوباما أنه قادر على النجاح فيه أيضا بعدما قاد في قمة دول حلف شمال الأطلسي الأخيرة وساطة صعبة جدا حين أقنع الأتراك بتغيير موقفهم من ترشيح رئيس وزراء الدنمارك لمنصب الأمين العام بدخوله كفيلا على الخط، مثبتا فعلا أن المواجهات يمكن أن تظل في حدود المناورات الدبلوماسية والسياسية وأن الكثير من أزماتنا في المنطقة يمكن أن تحسم دون اقتتال أو تهديد أو استفزاز أو حتى هدر قطرة دم واحدة.

* كاتب وأكاديمي تركي