مشكلة الصحوات.. لكي لا يشعر العرب السنة بأنهم مستهدفون

TT

في وقت ما من عام 2006 حضرت اجتماعاً للرئيس طالباني مع الجنرال أبي زيد قائد القيادة المركزية الأميركية، والجنرال كيسي القائد العام لقوات التحالف في العراق، ولمست من حديث الجنرال أبي زيد جزعاً من الهجمات التي تشن عليهم، خصوصاً في مناطق تواجد العرب السنة. وبعد أن شعرت بخطورة الموقف والقرارات المحتملة، عرضت عليه الموافقة على أن نتولى تشكيل وحدات من القوى الشبابية للعشائر، لتأمين الطريق من بغداد إلى تكريت شمالاً كمرحلة أولى، الذي كان التنقل عليه شبه محرم، بسبب نشاطات «القاعدة». وقد دعم الرئيس الفكرة، وتعهد بتغطية المتطلبات، إلا أن أبا زيد التفت إلى كيسي، الذي تحفظ بطريقة مؤدبة، لأنهم لم يكونوا مستعدين لتكوين قوات غير نظامية. وفي نهاية الاجتماع خرجنا الثلاثة لعقد مؤتمر صحفي، قال فيه الجنرال، أن على العرب السنة إن أرادوا توفير الحماية لهم من قبل القوات الأميركية، الكف عن ضربها.

بعد ذلك تصاعدت رغبة الشيخ عبد الستار أبو ريشة، الذي زار الرئيس، مبيناً ثقة غير مسبوقة في قدرته على طرد «القاعدة» من مناطقهم، وكان قد التقى رئيس الوزراء أيضاً. ولم يكن أحد يثق في قدرة الشيخ الشاب على تحقيق ما حصل ، إلا أنه كان على ما يبدو قارئاً للموقف المناطقي والشعبي جيدا.

كانت نسبة كبيرة من شباب المناطق العربية السنية منخرطة في الجماعات المسلحة، فيما بلغ عدد عناصر تنظيم القاعدة أكثر من عشرة آلاف تحت السلاح، وحاولت قيادة «القاعدة» فرض أجندتها على الجماعات المسلحة الأخرى. وعندما جوبهت بالرفض من قبل العديد من الفصائل المسلحة، شملتهم بعنفها وإرهابها، وبدأت بتصفية قيادات عربية سنية، معتقدة أنها قادرة على الاستحواذ على كامل الساحة. وهو شعور دفعها إلى إعلان ما سمي دولة العراق الإسلامية، ذلك الشعار الذي استفز الجماعات المسلحة وعموم العرب السنة قبل غيرهم.

نجح الشيخ أبو ريشة في شق طريقه بسرعة مذهلة، وبإمكانات كان يشكو قلتها، فانتشرت الفكرة بعد أن تلقفت نتائجها القوات الأميركية، وأيدتها الحكومة أيضاً، وأصبحت الصحوات جزءا من الاستراتيجية الأميركية الجديدة، التي دفعت بتعزيزات من أكثر من ثلاثين ألفاً من أفضل قوات الضربة.

تتألف قوات الصحوة من ثلاثة توجهات: عشائرية لم تحمل السلاح من قبل، وأخرى كانت منخرطة في صفوف الجماعات المسلحة (المقاومة)، وثالثة تتكون من مسلحين عملوا مع تنظيم القاعدة، ومنهم من شغل مواقع مهمة نسبياً بدافع قتال القوات الأميركية، أو بسبب الإغراءات، وأحياناً الضغط، بعد أن فرضت «القاعدة» سيطرة قوية على مناطق شاسعة من العراق. ومَنْ يترك العمل معها؛ كانت تحكم عليه بالموت.

قبل أن تبدأ الصحوات، كان من الصعب توقع بقاء القوات الأميركية في العراق، حيث تزايدت خسائرها كثيراً، بمعدل أربعة قتلى يومياً على مدى أشهر، ولم تنفعها القسوة والاعتقالات غير المقيدة بقانون. وقيل إن زوار المعتقلات بلغوا نحو نصف مليون، وهو رقم غير مستبعد، على التتابع.

تلقى أفراد الصحوات رواتب شهرية بحدود 200 - 300 دولار من القوات الأميركية مباشرة، قبل أن تنقل مسؤوليتها إلى القوات العراقية خريف العام الماضي. وبقي تسليحهم محدودا، معتمدين، إلى حد ما، على ما لدى الأفراد من موارد.

أبرز ما ميز الصحوات، نشوؤها في محيط صعب، حيث رفضت إيران الفكرة مبكراً بوضوح، لأنها تريد للعنف أن يستمر، واعترضت عليها جماعات عربية سنية تصر على محاربة القوات الأميركية، من دون إدراك للنتائج، ونتيجة عدم مبالاة بالتضحيات البشرية الهائلة، والشقوق الحاصلة في النسيج الوطني العام، أما «القاعدة»، فاعتبرتها العدو رقم واحد. وأصبح هؤلاء مستهدفين من كل اتجاه، فضلاً عن أن الحكومة لم تكن في بداية الأمر متحمسة كثيراً للفكرة، خشية ظهور ميليشيات أخرى.

وانضم إليها عدد كبير من العسكريين والضباط السابقين برتب مختلفة، أكسبوها قدرة قتالية مميزة، ساعدتها على امتصاص عمليات الانتقام القاعدي. وتمكنت من تحقيق منجزات كبيرة، أهمها حماية بعض مناطق بغداد من هجمات فرق الموت المدعومة إيرانياً، ودلالة القوات الأميركية والحكومية في ما بعد على مستودعات السلاح، والتعريف بهيكلية تنظيم القاعدة، والأسماء الأكثر خطورة، وتشجيع الشباب المغرَّر بهم للخروج على «القاعدة»، والتصدي لها. وهو ما ساعد في النهاية على تحقيق نتائج أفقدت «القاعدة» مناطقها الآمنة، ولم تعد الأرياف والمدن العربية السنية حاضنات إجبارية لها. وتقرر في النتيجة دمج نحو 20% من أصل رقم وصل إلى (120) ألفاً في مرحلة ما، في القوات الأمنية، وهي نسبة قليلة، قياساً إلى وجود نحو(750) ألفاً في وزارتي الدفاع والداخلية.

ولما كانت حرب العراق مؤسفة ومؤلمة وقاسية، وشاركت فيها أطراف عراقية مختلفة، سنة وشيعة، وبرغم عمق الجروح، كان المفترض اعتبار العمل في الصحوات خطاً فاصلاً في تحديد المساءلة القانونية، لأن من غير المعقول أن يصبح من لبى النداء الوطني، وطرد «القاعدة» طرداً شبه حاسم، قلقاً على وضعه، لا سيما أن كل من حمل السلاح مع أي من الجماعات المسلحة، شيعية سنية، شارك بشكل وآخر في ما حصل.

ما وقع في الأيام القليلة الماضية من عمليات عنف، ينبغي أن يدرس بعناية وتمهل، وألا يكون سبباً لقرارات شمولية. وإن ما يُنشر عن اعتقال بعض قادة الصحوات، يؤدي إلى فقدان الثقة في النيات، فيما يفترض العمل سويا معها، لكشف عمليات الاختراق الضارة، أسوة بما حصل في وزارتي الدفاع والداخلية اللتين خضعتا لعمليات تطهير من اختراقات مماثلة، وإنْ اختلفت الاتجاهات.

ومع عدم وجود شك في أن بعض مراكز الاعتقالات تحولت إلى ما يشبه مراكز غسل دماغ لمصلحة «القاعدة»، فإن قراراً بإعادة اعتقال كل من أطلقته القوات الأميركية سيعطي انطباعات حساسة، يرى العرب السنة أنفسهم مستهدفين بها.

صحيح أن الصحوات مشروع مؤقت، إلا أنها دخلت سجل الأحداث إيجابياً، وينبغي شمولها برعاية الوطن والدولة.