حزب الله.. وكراسي الذهب

TT

ما يفعله حزب الله في مصر، لا يشغل اللبنانيين كثيراً، ولا يفتح شهية السياسيين على التعليق. فالحزب يفضّل أن يركّز على معركته الداخلية ويفوز بالسلطة قوياً متماسكاً، وفريق 14 آذار ليس معنياً بفتح سجالات، لن ترفع بالضرورة أسهمه لدى الناخبين. فالطرفان يدخلان معركة ضروساً، وكل يدرس كلماته والقضايا التي يثيرها بدقة، وللجهتين مصلحة في تجاهل موضوع له في القاهرة فعل القنبلة، وفي بيروت يزوّد بكاتم للصوت، لتفادي تداعياته المورّقة.

فلا كبير غرابة في اكتشاف خلية لحزب الله في مصر، تعمل على الحدود المصرية مع غزة بالنسبة لكثير من اللبنانيين، والمنطقي أن يكون لحزب الله عيون وآذان متقدمة في بقاع مختلفة من العالم، بما فيها أوروبا وأميركا. ولمن لا يتذكر فإن الحزب نجح عام 2000 في استدراج ضابط الاحتياط الإسرائيلي الحنان تننباوم من أوروبا، وجعله يأتي إلى لبنان برجليه. وبنتيجة هذا الاختطاف الذي لا يزال ينام على أسراره، تمت أكبر عملية تبادل للأسرى بين حزب الله والإسرائيليين. وحين تحدث هذا العقيد بعد الإفراج عنه قال: «كان المحقق من حزب الله، يجيد العبرية بشكل مذهل، وكأنه ترعرع في شارع شينكين في تل أبيب، أعطوني خمس صفحات مطبوعة باللغة العبرية من دون أي أخطاء، تضمنت أسئلة وأجوبة، ولا يمكنك أن تخرج عن النص يمينا أو شمالا».

هذا قد يضيء على أمر آخر. فالضربة التي تلقتها إسرائيل في لبنان عام 2006، لم تكن نتيجة كفاءة عسكرية فقط، وإنما ثمرة حنكة استخباراتية دقيقة جعلت الإسرائيليين يتيقنون من أن المعلومات التي يمتلكها الحزب حول مواقعهم العسكرية ومعداتهم وخططهم هي من الدقة، بحيث لا بد أن تكون مستقاة من الداخل العبري، وليست مبنية على تكهنات اعتباطية. أكثر من ذلك، فمن يعرف جغرافية جنوب لبنان وكيف أن قراه منبسطة على مدى نظر الجيش الإسرائيلي، يستعصي عليه أن يفهم كيف عملت المقاومة سنوات طوال بتلك السرية المذهلة، دون أن تكتشف خططها ومدافن صواريخها، خاصة أن طائرات الاستطلاع لا تغادر السماء اللبنانية. ومنذ توقفت الحرب عام 2006، فإن حوالي 30 ألف عسكري بين لبناني ودولي، يتوزعون على أرض صغيرة تفصل الحدود الإسرائيلية عن جنوب الليطاني، وهم مكلفون برصد أي حركة مشبوهة أو سلاح يلمحونه وفقاً للقرار 1701، إلا أن أي مخالفة لم تسجل. والمنطقة الحدودية عالية الحساسية بالنسبة لحزب الله، وبديهي أن تكون محشوة بالأسلحة والصواريخ، التي لا ينكر الحزب بأنها باتت أضعافاً مضاعفة عما كانت عليه قبل الحرب الأخيرة. وليس سراً أن الأسلحة تنقل من سورية ومع ذلك، فإن المرات القليلة التي ضبطت فيها أسلحة في طريقها إلى الجنوب، تؤشر إلى مدى القدرة التنظيمية. واكتشف أهالي بيروت في 7 أيار الماضي، يوم احتدمت المعارك في الشوارع إثر الخلاف الكبير بين فريقي 8 و14 آذار، أن حزب الله يمتلك خريطة واضحة تماماً، للعاصمة ويعرف سكان الشقق وانتماءات قاطنيها السياسية، مما سهل إحكام حلفائه على المدينة في غضون ساعات قليلة.

السرية ومهارة جمع المعلومات، هما جوهر تنظيم حزب الله، مضافاً إلى ذلك اهتمام عال بتكنولوجيا المعلومات والبحث العلمي والرصد الإعلامي. وسيكون من الغباء بحق أن يكون هكذا حزب في غياب عما يحدث في دول الطوق، وأماكن تحرك الإسرائيليين. وسبق للأمين العام للحزب أن أكد تكراراً مساندة الفلسطينيين بكل وسيلة ممكنة، ودعمه للمقاومة العراقية، لا بل وكل مقاومة. وبالتالي فاعترافه الشهير بتواجد استخباراتي لوجستي في مصر، يأتي بالنسبة للبنانيين في سياق متسق مع المعلن، ولا جديد فيه، سوى التفاصيل والأسماء، والانتقال من الكلام المجرد إلى الوقائع المحددة.

وفي عزّ الحمى الانتخابية اللبنانية، يبدو التعاطف مع الغضبة المصرية على حزب الله محرجة لمن يوافقونها، ومزعجة لمن يرفضونها، ويتصرف السياسيون اللبنانيون معها وفق المثل القائل «إمش الحيط الحيط لتوصل عالبيت» أو إلى المجلس النيابي. واعتبار رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص ـ وهو ليس محسوباً على موالاة أو معارضة ـ أن الاتهامات المصرية لحزب الله «وسام» و«مفخرة» مؤشر إلى انقسام حاد، سيكون جلياً في ما لو فتح النقاش حول القضية، يضاف إليه تصريح للوزير إبراهيم شمس الدين (شيعي غير محسوب على حزب الله) العائد للتو من مصر، مستاءً من الاتهامات الموجهة إلى الحزب لا سيما تهمة نشر الفكر الشيعي ومؤكداً «أن الفكر الشيعي هو فكر إسلامي أولا، وليس فكرا حزبيا أو فئويا، وإيراد هذه التسمية كاتهام، هو إساءة لكل المسلمين الذين ينتمون إلى واحدة من المدارس الفقهية الخمس الكبرى وتصويرها بشكل سلبي». وإذا جاز اعتبار كل من الحص وشمس الدين شخصيتين مستقلتين، فإن موقفيهما يؤشران إلى حساسية لدى الناخب المستقل وغير الحزبي، الذي ما يزال يتردد في اختيار مرشحيه، وعليه كبير التعويل في حسم النتيجة الانتخابية. وقد لا تكون ضجة من نوع تلك المثارة في مصر إلا القشة التي تنتقل به من ضفة إلى أخرى. وبما أن أحداً لا يملك، زمام التحكم بالمزاج الوسطي المنقسم أصلا بين عروبيين مترددين، ومتأوروبين محبطين، فإن تجاهل الضجيج المصري قدر المستطاع، أسلم للطرفين المتصارعين على 128 كرسياً نيابياً، تأثير كل كرسي منها على مسار البلاد في السنوات المقبلة، تجعله أغلى من الذهب.

[email protected]