من ديربان إلى جنيف: يجب أن يستمر العرض

TT

بعد ثماني سنوات من انتهاء فعاليات المؤتمر العالمي الأول حول العنصرية باشتعال أعمال شغب في ديربان بجنوب أفريقيا، يحشد المجتمع الدولي صفوفه لإجراء محاولة ثانية للتوصل إلى أرضية مشتركة حول قضية لا تزال ملحة داخل الكثير من الدول.

تحت عنوان مؤتمر ديربان للمراجعة، من المقرر أن يجتمع مئات المسؤولين من ما يزيد على 180 دولة في جنيف بسويسرا خلال الفترة بين 20 و24 أبريل (نيسان) لمناقشة بشأن نص يمكنه جمع مختلف الأطراف باعتباره وثيقة تكفل التناغم بين مختلف العناصر والأعراق واحترام حقوق الإنسان.

والملاحظ وجود ثلاث قضايا تهدد بدفع المؤتمر في مسارات مغايرة، أولها: الجدل القديم الدائر حول ما إذا كانت الصهيونية، وهي الأيديولوجية التي كانت وراء إنشاء دولة إسرائيلية، تعد نمطاً من أنماط العنصرية. ويذكر أن الإجابة التي تمخض عنها المؤتمر الأول في هذا الصدد كانت «نعم» بأغلبية ساحقة، ما تسبب في مقاطعة الولايات المتحدة والعديد من حلفائها للمؤتمر.

بيد أن غالبية الدول التي وقفت وراء الخطوة الأصلية بمناقشة هذه القضية في ديربان تبدي عزمها هذه المرة على عدم السماح للجدل الدائر بهذا الشأن بتقويض مجمل المؤتمر. وبدلاً من ذلك، ستحاول هذه الدول تعبئة أكبر تحالف ممكن لتأييد الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير.

ويبدو أنه حتى الجماعات المسلحة المناوئة لإسرائيل خلصت إلى نتيجة مفادها أن اتخاذها موقفاً أكثر اعتدالاً من شأنه منحها فرصة أفضل مع الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس باراك حسين أوباما.

وبافتراض أن أوباما يهتم بصدق بتغيير السياسات الأميركية التقليدية الموالية لإسرائيل، يعتقد الكثير من العرب أنه لا ينبغي فعل أي شيء تجنباً لخلق مشكلات داخلية أمام الرئيس الأميركي الجديد.

أما القضية الثانية فتتمثل في محاولة عدد من الدول فرض حظر دولي على ما تصفه بـ«إهانة الأديان». ويستشهد أنصار هذا المقترح بأمثلة مثل الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية، مشددين على أن المساس بالحساسيات الدينية لدى أعداد ضخمة من الأفراد لا يقل في الألم الذي يسببه عن ذلك الناجم عن حالات التمييز العنصري التقليدية القائمة على أساس لون البشرة والشكل الخارجي.

وفي المقابل، يعتقد معارضو هذه الفكرة أنها غير عملية على أفضل تقدير، وربما تمثل هجوماً مباشراً ضد حرية التعبير كواحد من الحقوق الإنسانية الأساسية على أسوأ تقدير.

وعلاوة على ذلك، لن يكون من السهل تحديد ماهية ما يعد ديناً. على سبيل المثال، هل ينبغي الاقتصار على الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام؟ أم ينبغي توسيع دائرة التعريف لتشمل أي جماعة تعرف نفسها باعتبارها طائفة دينية؟ هل يمكن تصنيف الهندوسية والبوذية كديانات أم يتعين الاستمرار في النظر إليهما باعتبارهما «أسلوب للحياة» مثلما يؤمن غالبية الخبراء المعنيين بهما؟

أما القضية الثالثة فتكمن في ادعاء بعض الدول الإسلامية تعرضها للاستهداف على نحو خاص بالنقد بناءً على اتهامات لها بانتهاك حقوق الإنسان. ويمكن القول إن أبرز الأمثلة المجسدة لهذا الأمر في الوقت الراهن تتركز في قضية الرئيس السوداني عمر حسن البشير، الذي صدر بحقه أمر توقيف دولي من جانب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بناءً على اتهامات باقترافه جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية وعملية إبادة جماعية.

والملاحظ أنه حتى من لا يشعرون بتعاطف شخصي مع الرئيس السوداني يزعمون أنه جرى استهدافه تحديداً بسبب أيديولوجيته الإسلامية، وليس أي جريمة قد يكون ارتكبها فيما يتعلق بدارفور.

بيد أنه من الصعب دعم هذا الادعاء بالنظر إلى عدم توافر سابقة تاريخية لتعرض رؤساء دول مسلمين لاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان أو ما شابه من اتهامات أخرى. أما الطاغية العراقي صدام حسين، فقد جرت محاكمته وشنقه على يد شعبه، وليس المحكمة الجنائية الدولية. ولا يمكن لعاقل إنكار حقيقة أنه كان يتحتم تقديم صدام إلى العدالة.

جدير بالذكر أن رئيساً مسلماً آخر، وهو الرئيس التشادي السابق حسين هبري، يوجد حالياً في السنغال بانتظار قرار بتسليمه لسلطات بلاده. مثل نظيره السوداني، يواجه هبري اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ليس من قبل عصبة معادية للإسلام، وإنما من جانب إخوانه المسلمين، بينهم الكثيرون من ضحاياه.

ويعد الملا محمد عمر، زعيم جماعة طالبان، مثالا آخر لرئيس مسلم تسعى بلاده لتقديمه إلى العدالة بسبب عدد من الاتهامات الموجهة إليه. والملاحظ أن الجرائم التي اقترفت داخل أفغانستان خلال سنوات حكمه موثقة بصورة كاملة ومن السهل إثباتها حتى أمام محكمة تحكم بالشريعة الإسلامية.

ومنذ ما يزيد على عقد مضى، أصدرت محكمة جنائية في برلين بألمانيا أمر توقيف بحق «المرشد الأعلى» في إيران، على خامنئي، لتعرضه لاتهامات بالتورط في قتل أربعة منشقين أكراد إيرانيين بالمدينة ذاتها. ومن ناحيتها، ادعت الجمهورية الإسلامية أن قرار المحكمة نابع من دوافع سياسية. ومع ذلك، لم تقدم على قطع صلاتها الدبلوماسية مع ألمانيا.

ومع أن الزعيم الليبي، العقيد معمر القذافي، لم يتم توجيه اتهامات رسمية إليه، فإنه على امتداد المحاكمة التي استمرت عامين في لاهاي لاثنين من عملائه على خلفية اتهامات بالتورط في تفجير طائرة تتبع شركة بان أميركان عام 1988، ما أسفر عن مقتل 243 شخصاً، ورد ذكر اسمه مراراً باعتباره العقل المدبر وراء هذه المذبحة. وبفضل صفقة دبلوماسية أبرمها مع بريطانيا، تمكن العقيد الليبي من تجنب مواجهة نفس النمط من أوامر التوقيف الذي يجابهه البشير اليوم.

ومن ناحية أخرى، لا يزال التحقيق الدولي الذي تجريه الأمم المتحدة حول مقتل رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق، في مراحله الأولى. ومع ذلك، ثمة حقيقة راسخة: أن استخبارات أجنبية متورطة في عملية الاغتيال التي حصدت أرواح 21 شخصاً آخر بجانب الحريري. ومن ناحيتها، قبلت السلطات القضائية اللبنانية هذه الفكرة بتحويلها القضية إلى المحكمة الدولية.

وحال انتهاء الحال بالمحكمة، مثلما يبدو مؤكداً، بإقرار تورط الجهات الأجنبية، ربما يضاف اسم جديد إلى قائمة القادة المطلوبين للمثول أمام القضاء لارتكابهم جرائم متنوعة.

وبالنسبة لمؤتمر ديربان للمراجعة، فإن من الممكن استغلاله بصور متنوعة، ذلك أنه يمكن النظر إليه باعتباره منبراً لتعزيز الأجندات الشخصية أو الحزبية، وهذا ما ينوي محمود أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الإسلامية بطهران، القيام به. ففي مواجهة منافسة صعبة على نحو متزايد لإعادة انتخابه، أعلن نجاد عزمه السفر إلى جنيف للترويج لصورته باعتباره حامل لواء المقاومة ضد المعسكر «الصليبي ـ الصهيوني» بزعامة «الشيطان الأكبر» الأميركي. ومع أن الرئيس البشير لن يجرؤ على التوجه إلى جنيف، فإنه يأمل في أن يشهد المؤتمر ظهور أصوات تدعمه.

بيد أنه في ظل ظروف مثلى، ينبغي استغلال المؤتمر كإطار عمل لنقاش جاد حول القضية الأصلية: العنصرية التي تبقى ملمحاً قبيحاً من ملامح الحياة داخل العديد من الدول.