الصراع في المحيط الهندي

TT

في عدد مارس/أبريل من مجلة «الشؤون الخارجية» الأميركية كتب روبرت كابلان (المعلِّق اليميني المعروف) مقالةً عن النزاعات في «المحيط الهندي». وخلاصة رأيه في أسباب الوضع الحالي المتوتر والفوضوي أن الولايات المتحدة بدأت منذ التسعينات تُرخي قبضتها في المحيط الهندي، وتعتمد على حليفتيها الهند واليابـان، لموازنة صعود النفوذ الصيني والاهتمامات الصينية. فالاضطرابُ الحالي ـ بسبب هذا الوضع ـ ناجم عن عجز الحلفاء عن مواجهة التحديات! ولا شيء أكثر بُطلاناً من هذا الكلام. فالولايات المتحدة ما كانت في تاريخها الماضي والحاضر أكثر انتشاراً في المحيط الهندي وما حوله منها الآن. والقيادة الوسطى أو المركزية أحدُ مظاهر انتشار الولايات المتحدة وقوتها. وذلك بالإضافة إلى القاعدة بقطر، والتركُّزات بالكويت والبحرين، ثم الوجود بشكلٍ أو بآخر في تنزانيا وكينيا وجيبوتي وإلى إندونيسيا وماليزيا والممَّرات والمضائق وصولا إلى مشارف بحر الصين والمحيطين الهادي والأطلسي! ولنُضف إلى ذلك أيضاً وأيضاً القيادة الأميركية الجديدة الخاصّة بإفريقيا؛ وهي معنية بصَون الاستقرار، والتصدّي للامتدادات الصينية والعودة الروسية! فالواقعُ أنّ الفوضى في المحيط الهندي ناجمة عن كثافة انتشار البحرية الأميركية فيها، وردود الفعل الإقليمية على ذلك؛ فضلا عن التذمُّر الدولي في السنوات الماضية من سياسات الولايات المتحدة الهجومية، التي لا تأبهُ لمصالح الآخرين، ولا تأبهُ للقانون الدولي والمؤسَّسات الدولية. والطريف ذو الدلالة أنّ الولايات المتحدة في بداية حقبة الهيمنة مطلع التسعينات جربت تجربتين لإثبات انتصارها في الحرب الباردة؛ كانت إحداهما عام 1990/1991 في العراق، وكانت الأخرى عام 1993 بالصومال. في الحرب على العراق أرادت إثبات أنْ لا أحد يستطيع اللعب على مسرح مصالحها الاستراتيجية، وفي الحرب بالصومال أرادت تثبيت السيطرة في المحيط الهندي وإثبات تفوقها الأخلاقي بإغاثة الصومال في مجاعته وفوضاه. وما كانت النتيجةُ مرضيةً لها في الحالتين. في العراق، عادت دولةُ الكويت للوجود؛ لكنّ صقور أميركا والغرب لاموا بوش الأب لأنه لم يُسقِط صدَّام. وهو الأمر الذي فعله بوش الابن في أفغانستان، عندما أراد ملاحقة القاعدة فقضى على حُكم طالبان، دون أن يقضي على القاعدة! أمّا في الصومال فالغريبُ أنّ كيلنتون انسحب بعد مقتل عشرات الجند الأميركيين والباكستانيين في كمائن نصبها بعضُ أمراء الحرب في العاصمة مقديشو. ومنذ ذلك الحين لم تهدأ تلك الناحية من المحيط الهندي؛ وللسببين اللذين ذكرناهما: إسراف الولايات المتحدة في استخدام القوة ضد القوى المحلية والإقليمية في المحيط وبجواره. ثم انفرادها وإصرارها على الأَوحدية ليس في وجه الصينيين والروس وحسب؛ بل وفي وجه الأوروبيين أيضاً. وهنا يأت البُعدُ الذي يمكنُ من خلاله العودة إلى مقالة كابلان بمجلة «الشؤون الخارجية» الأميركية.

يقول كابلان إنّ المحيط الهندي وقع طوالَ العصور الوسطى وحتى مشارف القرن السادس عشر تحت السيطرة الإسلامية. ولا يرجعُ ذلك لقوة أساطيل العرب فالأتراك وحسْب؛ بل ولأنّ عالم المحيط الهندي كان كلُّه عالماً عربيا وإسلاميا منذ القرن السابع الميلادي. ومعنى ذلك أنّ ضفتيه وسواحله كانت كلُّها سواحل عامرةً بالمسلمين في الشواطئ الإفريقية، ثم في أعالي المحيط على الشواطئ الآسيوية. وبسببٍ من ذلك قامت دول ودُويلات على شواطئ المحيط ومن بحر العرب إلى بحر الصين، وإلى شبه القارة الهندية. وهكذا لم يكن العثمانيون وحدهم هُمُ الحاضرين، بل كان لهم حلفاءُ وأصدقاءُ، ظلُّوا يقاومون ويفوزون أو يخسرون حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. ففي القرن السادس عشر جاء البرتغاليون فضربوا العُثمانيين والعُمانيين، وجاء بعدهم الهولنديون ثم البريطانيون والفرنسيون. وتمثّلت سطوة الأوروبيين في المحيط الهندي بأمرين: استخدام المدفعية لمطاردة السفن الحربية والتجارية، وإقامة مستعمرات ثابتة على الشواطئ الإفريقية والآسيوية والأطراف لتحمي المصالح التجارية، ووسائل السيطرة. وقد ظلَّ العثمانيون يقومون ويربحون تارةً، كما يخسرون تارةً أخرى حتى القرن السابع عشر. وظلَّ العُمانيون والمُغُل بالهند يخسرون ويربحون حتى أواخر الثامن عشر. ثم تضاءل الوجودُ العربي/والإسلامي إلى اليوم، رغم وجود دولتين عربيتين كبيرتين تستطيعان التأثير والتدبير بسبب موقعهما الجغرافي ومصالحهما المتنامية وهما مصر والسعودية. وفي خضمّ المعمعة من أجل التوحُّد والهيمنة، ما وجدتْ الولاياتُ المتحدةُ وبالعَمْد أو بالمُصادفة مَنْ «تُشاركُهُ» غير إيران. فتعاونتا في أفغانستان والعراق بالإيمان والإيحاء والتسهيل. وما وصلت إيران إلى المحيط الهندي، لكنها ارتهنت مضيق هُرمُز وهي تُهدِّدُ به كلَّ الوقت، فتغضب الأميركيين، وتُزعج الخليجيين، كما تُزعجُ الآنَ مصر ومن طريق تلك الامتدادات «حزب الله» التي حقَّقَتْها في ظلّ الأميركيين بالذات!

وروبرت كابلان عندما يُشيرُ إلى الصعود الصيني والهندي، فهو إنّما يُشيرُ إلى الاحتياجات الضخمة للبلدين الناهضَين للناحيتين: لناحية الحاجة الهائلة للطاقة والوقود، ولناحية الأساطيل التجارية الضخمة التي تعبُرُ المحيط الهندي حاملةً سِلَع البلدين العالميين وصادراتهما. فهو يريدُ العودة بالمحيط الهندي إلى «ما قبل الهيمنة» الأوروبية فالأميركية بتعبير جانيت أبو لُغْد. فقد تحدث توبي هاف في كتابه: «صناعة العالَم الحديث» عن ثالوث: الإسلام، الصين، أوروبا. وفي الحقبة الطويلة ما بين القرنين العاشر والسادس عشر، حين كان المحيط يغصُّ بالسُفُن التجارية والبارجات، وناقلات الحُجاّج. وخرق البرتغاليون ذاك السلام الطويل ببوارج المدفعية، ثم صارت السفن التجارية نَفْسُها تحمل مدافع التدمير والاستعمار، وليس احتياجات خانات التجار ومراكزهم. وهذا تصوُّرٌ خياليٌّ إلا إذا حدثت ثلاثة أمور: عودة الولايات المتحدة إلى سياسات الوفاق والتوافُق، وإلى العمل على إدارةٍ دوليةٍ فعّالة لسائر قضايا العالم وعودة الأطراف.