مكائن خياطة الوهم!

TT

حينما مات الوالد رحمه الله ترك لنا مذياعا عتيقا، وقطعة أرض معلقة بين القاع والسماء، المذياع انتهى أجله، وبح صوته من كثرة ما شدا بأصوات محمد عبد المطلب، وصالح عبد الحي، وجمعة خان، ومحمد علي سندي، أما الأرض المدفوعة ثمنها عدا ونقدا، فهي ضمن مخطط كامل وهمي، احتمى بائعه بصك إعسار أعفاه من إعادة المبالغ التي استلمها من المشترين، ولم يزل ورثته يحتمون إلى اليوم بنفس صك الإعسار. لا يحزنكم الأمر، فلسنا وحدنا المنصوب عليهم، و«المحتال عليه مع الجماعة رحمة».

لكن الأهم هو ما تركته لنا الوالدة عند رحيلها، إذ كان إرثنا منها عبارة عن ماكينة خياطة ماركة «سنجر» المشهورة، ولكوننا نعيش في عصر الجاهز احترنا ماذا نفعل بتلك الماكينة، وليس بيننا من يمتلك طموح أن يصبح «ترزيا»، فتقاذفت الماكينة البيوت منذ سنوات!

المفاجأة أن أسواق السعودية تعيش منذ أسبوع ما يمكن أن يسمى بـ«أسبوع الجنون»، على غرار أسبوع الشجرة، وأسبوع المرور، مع مراعاة الفارق، فلقد هبت نفحة هيستريا رفعت أسعار مكائن الخياطة القديمة «سنجر» ـ بقدرة قادر ـ من مائة ريال إلى أسعار تتراوح ـ بحسب صحيفة عكاظ السعودية ـ من 45 ألف ريال إلى نصف مليون ريال، وأدى ذلك إلى انتعاش أسواق الخردة، ولم يبق صوت يعلو على صوت ماكينة الخياطة «سنجر»!، وخاضت الصحف مع الخائضين في أخبار هذه المكائن السحرية التي انبعثت من قبورها في أسواق الخردة على إثر شائعة ساذجة أطلقت الجنون من عقاله.

تقول الشائعة ـ التي ربما أطلقها خياط يعتزم اعتزال المهنة ـ إن إبر تلك المكائن العتيقة تحوى في داخلها مادة تسمى الزئبق الأحمر، وأن هذا النوع من الزئبق يستخدم في السحر، كما يستخدم في بعض الأغراض العسكرية، ورغم نفي وكيل الشركة الصانعة لتلك المكائن وجود هذا الوهم، الذي اسمه الزئبق الأحمر داخل الإبر، إلا أن أحدا لم يلق لكلامه بالا.

وفتحت أسعار المكائن شهيتي في البحث عن إرثنا المفقود، فرحت أتقصى أخبار الماكينة من بيت إلى بيت، قبل أن أكتشف أنها ـ أي الماكينة العزيزة ـ قد استقرت قبل نحو عام في مرمى النفايات مجانا!

فإذا كان الجنون فنون، فإن جنون مكائن الخياطة سيظل لأعوام طويلة الأكثر «هبالة»، وغرابة، وسذاجة، وقد يحتاج المصابون بهذا النوع من الجنون إلى الكثير من الوخز بإبر تلك المكائن قبل أن يعودوا إلى رشدهم. وحسبنا الله.

[email protected]