الأفيال تفوز على الخيول العربية في السباق!

TT

بدأت أمس الأول الانتخابات النيابية في الهند وفق النظام الديمقراطي البرلماني التعددي الموروث من تبعيتها للتاج البريطاني (1856 ـ 1947).

يفوق عدد الناخبين 714 مليونا من الجنسين يتوجهون إلى 830 ألف مركز اقتراع لاختيار 543 نائبا من بين 1055 مرشحا لأحزاب تمثل جميع ألوان الطيف السياسي.

العملية تستغرق أربعة أسابيع، فالهند شبه فيدرالية من 26 ولاية لكل منها حكومتها، إلى جانب سبع مقاطعات اتحادية.

يحجز من مقاعد البرلمان 131 للقبائل وأقليات، كانت تقليديا مضطهدة، أو جماعات تفتقر لإمكانيات منافسة الأحزاب الكبرى إعلانيا، وذلك لضمان تمثيل مصالحها في البرلمان؛ فعلى الرغم من ضآلة هذه الأقليات بالنسبة لتعداد الهند (مليار و200 مليون)، فإن كل منها يزيد عددها عن سكان دول بأكملها.

كما يحجز مقعدان برلمانيان للبريطانيين الهنود Anglo-Indians من أبناء وأحفاد موظفي التاج البريطاني عندما كانت الهند لا تزال جوهرته الكبرى. فالهند لم تطرد البريطانيين الذين اختاروا البقاء فيها بعد الاستقلال ولم تضطهدهم، أو تتهمهم بالخيانة أو تزج بهم في السجون كما فعل عدد من البلدان العربية مع البريطانيين والفرنسيين، ولم تصادر ممتلكاتهم ومزارعهم (كما حدث في زيمبابوي فانهار اقتصادها).

وبعد الاستقلال طوت الهند صفحات خطت بالدم والنيران في كتاب التاريخ الهندي البريطاني، وركزت على الفصول المشرقة المشتركة، كمحاربة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، واستفادت من الإرث البريطاني من سكة حديد ومستشفيات ومدارس، والنظام السياسي الديمقراطي.

والناخب سعيد برؤية رجل بوليس يحميه من متطرفين قد يحاولون التأثير على صوته، ومن إرهاب أعداء الديمقراطية. فالشرطي لن يصفعه على قفاه إذا أدلى بصوته للمعارضة، ولن يجر الناخبة من شعرها للتصويت للرئيس القائد المعلم أو للحزب الحاكم بأمر الله إلى ما شاء الله.

هناك بلدان شرق أوسطية وأفريقية استقلت قبل الهند، أو في نفس فترة استقلال الهند، ويعتبر وصول مستوى نزاهة الانتخابات فيها إلى مستوى الهند حلما مستحيل التحقيق.

وهناك أخرى كانت قد سبقت الهند في العملية الديمقراطية، وتراجعت ديمقراطيا اليوم إلى دون مستوى زيمبابوي.

ففي بلد كبير في هذه المجموعة وقعت حادثة موثقة بالشهود عندما دخل ضابط بوليس شاب في حماية ثلة من رجاله يحملون صناديق اقتراع «جاهزة» أي مملوءة بأصوات للحزب الحاكم وأمر رئيس اللجنة ـ وهو سكرتير مدرسة متقدم في السن وضعيف النظر ـ باستبدال الصندوق «الجاهز» الذي يحمله الشاويش بصندوق الاقتراع الموجود، وختمه بالشمع الأحمر وتسجيله. ولما وضع رئيس اللجنة يده اليمنى وراء أذنه قائلا «نعم؟» هوى الضابط الشاب بصفعة قوية على وجه الرجل الذي يفوق أباه سنا، رغم أن « نعم؟» رئيس اللجنة كانت بصيغة السؤال لضعف حاسة السمع عنده بالتقدم في السن، وليس بمعنى « نعم يا عمر..!» التي كانت تطلقها المرحومة ماري منيب في الأفلام تعبيرا عن استنكارها لما يقوله زوج ابنتها سيئ الحظ. ولم يعبأ ضابط البوليس الشاب بكاميرا التلفزيون والفريق الصحافي لاطمئنانه لحماية «مقص الرقيب» لسمعته قبل بث الفقرة في نشرة الأخبار المسائية.

أكثر من نصف بلدان الجامعة العربية مثلا كان مستقلا قبل الهند بعشرات السنين، فأين هم الآن من الهند؟

من المفارقات الساخرة الباكية أن مصر التي استقلت عام 1922، كان دستورها الصادر عام 1923 (وعرف بالدستور باشا لعظمته ونظرته الطليعية ومساواته بين الجميع) مصدر إلهام لأبي الاستقلال الهندي المهاتما غاندي (1869 ـ 1948) الذي كتب إلى زعيم الأمة المصرية سعد زغلول باشا (1859 ـ 1927) يطلب منه المشورة وسأله عن «الوصفة السحرية» التي تمكنه من تقليد سعد باشا كي «ينجح في جمع قلوب أبناء الأمة الذين ينتمون لقوميات وعرقيات وديانات وطوائف مختلف حول هدف واحد هو الاستقلال؟» وطلب غاندي نصيحة سعد باشا في إعداد مسودة مشروع دستور على غرار دستور 1923.

فقد تضمن الوفد المصري الذي قاده سعد باشا إلى بريطانيا يحمل مليون توقيع مصري، من ينتمون لعرقيات وديانات مختلفة، وكلهم مصريون. طبعا كان المصريون النيليون القبط (والكلمة هنا تعني سكان مصر الأصليين من الإغريقية Gypt في وادي النيل وليس المسيحيين فقط حسب الخطا الشائع)، هم الأغلبية، وهناك أقليات معتبرة عدديا كالنوبيين والأفارقة (فالسودان ومصر كانا أمة واحدة وقتها)، يليهم العرب وعرقيات بقايا الدولة العثمانية، وأوربيون وآسيويون؛ وكان بين من وكلوا سعد باشا زعيما للأمة أكثرية من المسلمين ويهود، ومسيحيين من عدة طوائف، وديانات أخرى. ويمتع الجميع بحقوق متساوية حسب الدستور ولهم حق الترشيح. وشهدت مصر رؤساء حكومة (كنوبار باشا مثلا) ووزراء يهود ومسيحيين ومن أصول أوروبية. فالناخب يصوت لمشروع الحزب قبل الفرد، وزعيم الحزب الفائز بأغلبية الأصوات يكلفه الملك بتأليف الوزارة. وظل النظام البرلماني الوزاري التعددي سائدا حتى ألغاه الكولونيل عبد الناصر في الأزمة التي تفجرت عام 1954، بنقضه الاتفاق الذي قطعه اللواء محمد نجيب، قائد انقلاب 1952 العسكري، للشعب وهو عودة الجيش للثكنات وتفرغه لمهام الدفاع عن الأمة ضد التهديدات الخارجية؛ والاستمرار في نظام تغيير الحكومة عبر صندوق الاقتراع وليس الصياح في ميكرفون معلق في مدفع الدبابة الموجه للجماهير.

الملاحظ أن البلدان العربية التي حققت تقدما على طريق الديمقراطية (ربما يبدو بسيطا للناظر من أوروبا، لكنه كبير جدا بمقاييس وتقاليد هذه المجتمعات) ولا تزال تتقدم باستمرار، هي بلدان الأنظمة الملكية التي استمرت في التطور الطبيعي للمجتمعات والأمم، وتفرغ فيها الجيش لشؤون الدفاع عن الوطن. فنرى اليوم مجالس نيابية مكتملة، أو أخرى في تقدم مستمر على الطريق نفسه، وتحصل النساء على حقوقهن السياسة في بلدان الخليج ذات المجتمعات التقليدية.

وباستثناء العراق، الأمة الوحيدة بين الأمم العربية كلها، التي تغير نظام الحكم عبر صناديق الاقتراع (وما كان المكسب يتحقق بلا تدخل عسكري غربي، تماما مثلما كانت الحملة الفرنسية في مصر مقدمة لتأسيس محمد علي باشا للدولة الحديثة) فإن الجمهوريات وبلدان «الثورة المستمرة» والانقلابات العسكرية لا تزال «محلك سر»، أو في نظام شمولية الحزب الواحد وتزوير الانتخابات ونسبة 99.9% أو تراجعت فيها الديمقراطية إلى مراحل هزلية اللجان الشعبية ومؤتمرات الصياح العامة، والمسيرات بلا هدف، وفقدت الأقليات حقوقها، والبعض أجبر على تغيير عقيدته أو اسمه لمجرد استخراج جواز السفر أو بطاقة تحقيق الشخصية أو بطاقة تموين المواد الغذائية، والتحق بالحزب الحاكم لمجرد الحصول على فرصة إطعام أسرته، بينما تتوجه بلاد تركب الأفيال (مع الاعتذار للقول الشهير) إلى صناديق الاقتراع.