أمة المعصومين: بين خصوم بريمير وناصحيه

TT

في السياسة العراقية اليوم يوجد ملعون واحد اسمه بريمير، فإذا كان مؤيدو «التحرير» ومعارضو «الاحتلال» يختلفون على كل شيء، فإنهم يتفقون على مهاجمة وانتقاد سياسات بول بريمير، الحاكم المدني الأمريكي للعراق، بل الأمر انسحب إلى الوسط الإعلامي الإقليمي المنقسم انسجاما مع التمحور السياسي الإقليمي، فإعلام «الممانعة» يلعن بريمير بوصفه مندوب الاحتلال السامي، وإعلام «الاعتدال» يلعنه لأنه اتخذ قرارات غير موفقة كحل الجيش واجتثاث البعث. قد يبدو ذلك غريبا لو حدث في مكان آخر، لكنه في عراقنا وفي منطقتنا طبيعي جدا، فالمواقف عندنا ترسمها الغرائز السياسية التي تبدو جسرا يربط خطابنا المثالي المتعالي بلاغة والممتلئ وعظا، ومصالحنا الحقيقية الضيقة في محتواها وفي أفقها الزمني. ولذلك ظهر وسط الطبقة السياسية العراقية من يصح أن نسميهم بـ«ناصحي بريمير» الذين يشتركون مع «خصوم بريمير» في مهاجمة بريمير.

العديد من أعضاء مجلس الحكم السابق الذين شاركوا بريمير اتخاذ قراراته ولو كمستشارين تبرأوا من تلك القرارات فيما بعد بوصفها إرث هذا المستبد الأمريكي الذي لا ينصت لنصائح السياسيين العراقيين المليئة بالروح الديمقراطية وبعد النظر، واليوم صار عاديا أن تقرأ في تصريحات هؤلاء السياسيين أنهم نصحوا بريمير بأن لا يفعل ما فعله، أو بأن يفعل ما لم يفعله، ويظهر أن كلهم تمتعوا بحصافة لو كان قد تمتع بها بريمير لما بلغ الحال ما بلغه اليوم. بريمير يقول في مذكراته إنه في الوقت الذي كان ينتظر من السياسيين العراقيين اتخاذ قرارات مهمة أو البت في مشاريع رئيسية، كان من الصعب جمعهم للاجتماع فما بالك بجمعهم على رأي، ولكن ما أهمية ما يقوله بريمير، فبعد كل شيء هو الأمريكي الغريب الذي حل وغادر ملعونا، وتركنا نحن بين ناصحيه وخصومه نعيش صراعا لا يمكن له أو لأجنبي غيره أن يفهمه، فنحن ببساطة أمة من المعصومين نعيش على الأرض استثناءً، نحن لا نخطئ، ولذلك ليس لدينا ثقافة الاعتراف بالخطأ. فهذا عزت الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة سابقا وشيخ المجاهدين حاليا، يضع شروطه كـ«منتصر» على الاحتلال الأمريكي، أنتم سيئون ومحتلون ومجرمون وغاصبون ولكن سننظر في إقامة العلاقات معكم وخدمة مصالحكم إن أعدتمونا إلى السلطة. مرة أخرى الأمريكيون وكل البريميريون هم أناس سيئون وأغبياء طالما لم يفهموا أو يتفاهموا مع ذواتنا المنزهة من الأخطاء، والمعصومية البعثية لم تهتز باحتلال البلد ودماره، أليس عزت الدوري نفسه هو من خاطب صدام مستجمعا كل ما يمكن أن يكون لدى الإنسان من وضاعة وحماقة: «معك يا سيدي حتى على الخطأ، وجل أن تخطئ»، السؤال الذي يمر على البال عند قراءة بيانات الدوري ومقاومته المزعومة: هل كنا مخطئين عندما تصورنا أن البعث لا يمكن أن ينزل إلى درك أسفل من ذاك الذي قاده إليه صدام، وهل أوصلنا ناصحو بريمير إلى حال يمكن فيه لبعضنا ان يضيع وقته في التفكير بشخص كان في عز سطوة النظام السابق، هدفا لتنكيت العراقيين وتندرهم. ولكنها مجددا سياساتنا الإقليمية والمحلية الخاصة، حيث يمكن لأي مغامر أن يصبح لاعبا سياسيا إذا حصل على دعم إحدى المخابرات الإقليمية، وفجر سيارة مفخخة في سوق شعبي، ثم أذاع بيانا فضائيا يضع فيه شروطه لخروج المحتل وقيادة البلاد.

المعصومية هي المشترك بين خصوم بريمير وناصحيه، وليس ذلك غريبا على أمة لم تتعلم الاعتراف بالخطأ فضلا عن الهزيمة، لم تتعلم المراجعة فضلا عن التصحيح، لم تتعلم المصالحة مع الذات فضلا عن المصالحة مع الغير، المعصومية تضرب جذورها عميقا في ثقافتنا الدينية والاجتماعية فتجعلنا هكذا لاعبين خارج التاريخ، بل مهرجيه وأضحوكته، المعصومية تتجسد عموديا لدى الشيعة في ذرية النبي من علي وفاطمة، وأفقيا لدى السنة في صحابة النبي ومعاصريه، لكنها تتسلل بقوة من خزيننا البدوي الذي لا تغطيه سوى قشرة هشة من المدنية، فالبدوي العربي ليس كالساموراي الياباني، هو لا يعترف بالهزيمة، هو منتصر حتى عندما يندحر، فالزمان العربي مطلق ولا بد من أخذ الثأر لاحقا، أما الاندحار فهو استمرار للمعركة بسبل أخرى.

عندما تطلب من خصوم بريمير وناصحيه أن يراجعوا أنفسهم ويتحملوا علنا مسؤولية ما ارتكبوه من أخطاء، حينما لم يكونوا خصوما جيدين أو ناصحين جيدين، فأنت تطلب منهم أن لا يكونوا هم، فالطريقة الوحيدة لديهم للانسجام مع الذات هي في مخالفة الواقع بل والافتراق عن الذات، هم منسجمون مع أنفسهم طالما انسجموا مع ثقافة المجتمع الذي انحدروا منه، طالما حافظوا على البدوي المتوثب بداخلهم القادر على اختراع ألف معنى للنصر دون أن يعثر على معنى واحد للهزيمة. نكتشف بعد كل هذه السنين العجاف وكل هذا القتل والدمار منذ 40 عاما أو يزيد، أن لا أحد أخطأ، المخطئ الوحيد هو بريمير، فبريمير اخطأ عندما أتى، وأخطأ عندما لم يأت، وأخطأ عندما بقي، وأخطأ عندما رحل، كان عليه أن يفهم عندما يتعامل مع خصومه وناصحيه انه يتعامل مع معصومين لا يخطئون حتى وهم يتقاتلون فيما بينهم، يسفكون دماء بعضهم، يصعدون بالعنف إلى أعلى درجاته شراسة وبالحرب إلى أسفل درجاتها أخلاقية، ثم ينظرون إلى الوراء فلا يعثرون على خطأ واحد ارتكبوه، فالفاعل هو بريمير، والمفعول به هو شعب دفع وسيظل يدفع ثمن عصمة سياسييه وتسافل سياساته.