شارباه وقبعته وعصاه

TT

أدرك أنه صغير القامة، فقرر أن يجعل من ذلك مصدر ثروته ومجده. فتش حوله في أحياء لندن الفقيرة عن عناصر أخرى للمبالغة في رسم شخصية تضحك الناس، فأضاف إلى القامة عصا، وقبعة يعتمرها، عادة، الأغنياء، وبنطالا مقلما فضفاضا لكي يبدو مسروقا أو مستعارا أو مشترى من سوق العتيق، أو ما يسمى في الغرب، إلى الآن، سوق البراغيث، لكثرة ما كان يباع فيه من أسمال.

كنت أعتقد أن شارلي شابلن ولد هكذا، مضحكا ومسربلا بذاته، يتعثر على الدوام ويسقط في الطريق ويخطف الحلوى من أيدي الأولاد. لكنني عندما قرأت له كيف يضحك الناس، وكيف أصبح، ربما، أشهر كوميدي في تاريخ المسرح والسينما، تبين لي أنه ابتكر كل شيء، ودرس كل حركة، وانتقى بنفسه ثيابه، والممثلين الآخرين، وأدوارهم، ورسم لهم حركاتهم.

جال في الأحياء والأسواق، وعرف ماذا يضحك الناس. لاحظ أن الناس لا تضحك إذا سقط رجل نحيل في حفرة، لكنها تقهقه إذا سقط في الحفرة نفسها «سمين سابق»، مثل الزميل العزيز تركي الدخيل، الذي عندما نحل بعد طول سمنة حوَّل أيام السمنة إلى مذكرات تضحك الناس.

في أحد المشاهد يبدو شابلن وهو يأكل الآيس كريم على شرفة المسرح، ودون أن يدري ذاب الآيس كريم وتساقط على سيدة ثرية بدينة تجلس تحته في مقاعد الصالة، وما لبثت أن هبت وراحت تتوعده. ويقول إنه لو كانت السيدة نفسها عاملة نظافة، ونحيلة، لما ضحك الناس، بل لغضبوا، وتحول الضحك إلى شفقة وتعاطف.

كان يجلس متخفيا في صالات المسرح ودور السينما ليدرس طويلا ردود فعل المشاهدين. ويبدو أن هذه سمة الفنانين المجتهدين. فقد كان عاصي الرحباني يفعل الشيء نفسه في العروض الأولى لمسرحياته. وكان يساعده في ذلك الساخر الضحاك فيلمون وهبي. وذات يوم كانا يراقبان الحضور الدمشقي فيما فيروز تغني للمرة الأولى «سائليني يا شام» وعندما انتهت، هب الدمشقيون وقوفا يهتفون ولا يتوقفون. وراحوا يصفقون تكرارا طالبين عودة فيروز لكي تستعيد الغناء. والتفت فيلمون إلى عاصي وقال له: لقد انتهت الوحدة السورية ـ المصرية! وكان ذلك قبل أسبوع واحد من 28 أيلول 1961. العباقرة مبصرون.