أقل القليل

TT

هل تمنيت يوما أن تعرف كيف ومتى يتحول خاطر إلى فكرة، وتتحول الفكرة إلى ابتكار، ويتحول الابتكار إلى فعل، والفعل إلى واقع يتأثر به ملايين البشر؟.

هل تتراءى لك أحيانا طوابير المستكشفين والعلماء والمخترعين والرواد الذين استولت عليهم رغبة في التعمق في طبائع الأشياء.. كيف تعيش الكائنات تحت سطح البحر وفوق جبال تكسوها الثلوج ؟، كيف اخترع إنسان تجفيف الطمي في الشمس، ومنه صنع قوالب تتراص فوق بعضها البعض ليبني مسكنا؟، كيف تعلم الإنسان الرقص مثلا؟، ومتى خرجت إلى الوجود أول رواية؟، ومَنْ اكتشف أن أوراق التوت تأكلها دودة، ثم تتحول ورقة التوت المهضومة إلى خيوط، والخيوط إلى أثواب ناعمة الملمس، تشن من أجلها الحروب؟. لماذا شعر الإنسان البدائي بضرورة رسم الحيوانات والأدوات والطيور على جدران الكهوف؟، وهل هناك رابط بين تلك الرسوم، والرسوم التي أفنى ليوناردو دافنشي عمره في إنجازها على سقف الكنيسة الشهيرة في روما؟.

من مشاهد الصيد التي اكتشفت علي جدران الكهوف.. إلى انجازات المخترعين الجدد، قطع الإنسان أشواطا مذهلة، ولكننا نادرا ما نفكر في الأصول والبدايات، ولا نفكر أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي بحث في تراب الأرض؛ فاكتشف معادن حوَّلها إلى فئوس، وسيارات، وقصور، وأجهزة كومبيوتر، وطائرات تشق السحاب. شَمَّ الزهور؛ فحولها إلى عطور، ورأى ظله؛ فاخترع الصورة الفوتوغرافية، والفيلم السينمائي. الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي اخترع آلة ذات أزرار، إذا ضغط على أزرارها؛ استطاع أن يكلم إنسانا آخر في أقصى شمال الدنيا، أو أقصى جنوبها. كم أتمنى أن أعرف اسم الإنسان الذي ابتكر علامات «الزائد»، و«الناقص»، وعلامة «القسمة» في الحساب. أين عاش، وأين مات؟، وهل أدرك أن ابتكاره سوف يصبح جزءا من الحياة اليومية للناس في كل مكان، وهم لا يعرفونه، ولا يذكرونه، ولا يحركهم إليه أي فضول؟.

ولو لم تصادفني معلومة تفيد بأن يوليوس قيصر هو أول من نشر صحيفة يومية، لما أدركت أن ثمة علاقة تربط بيني وبينه، رغم مضي آلاف السنين.. ففي عام 59 قبل الميلاد استحدث النواة التي نمت منها الصحف فيما بعد. فقد أمر بنشر صحيفة سميت «اكتا ديورنا»، أي أعمال يومية تنبئ عن المواليد والوفيات والزيجات. وكانت تكتب على أسطح معدنية أو صخرية، وتعرض في الأماكن العامة.

هذه الأفكار والتساؤلات راودتني هذا الصباح وأنا أعد شايا. تذكرت أسطورة، يرجع تاريخها إلى قرابة خمسة آلاف عام، مفادها أن الحرارة جففت بعض أوراق شجرة، وهبت رياح بينما جلس واحد من أباطرة الصين وأمامه قدر به ماء يغلي. وأتت الرياح بالأوراق الجافة فأسقطتها في الماء المغلي؛ فلما شربه الإمبراطور انتعش؛ فأمر بأن يسمى «شايًا»، وأن يصبح الشاي مشروبا قوميا في طول الصين وعرضها. وقيل فيما بعد أن ذلك الإمبراطور هو شن نونج، الذي عاش قبل الميلاد بألفي وثمانمائة عام. وبعد أن اكتشف الشاي؛ تعمق كثيرا في فوائد النباتات العشبية في مجال الصحة والتطبيب.

أين كنا؟، وإلى أين نسير في رحلة البحث عن أصول الأشياء؟، وهل ندرك أننا ـ رغم الابتكارات المذهلة التي دفعت عجلة التقدم إلى الأمام بلا هوادة - لم نؤت من عِلْم الله إلا أقل القليل؟!.