إشراقات في زمن عبد الله بن عبد العزيز

TT

طوال شهرين استحوذت على اهتمامنا كصحافيين المتابعة الدؤوبة للشأن العربي العام بمحطاته المختلفة من مفاجأة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في القمة العربية الدورية في الدوحة حول استكمال خطوات المصالحة، التي فتح الباب رحباً أمامها في القمة العربية الاقتصادية الأولى في الكويت، إلى المأزق السوداني، وما بين المفاجأة والمأزق من محطات لبنانية - لبنانية تتعلق بثبات التهدئة، وفلسطينية - فلسطينية تتعلق بالحوار المتعثر بين «فتح» و«حماس»، ودولية - عربية تتصل بالأزمة المالية العاصفة، التي تلفح بقوة وجوه مئات الخبراء الذين لم يتوقعوا أو يتنبهوا.. أو كانوا عن احتمالات انفجار الأزمة كوارث مالية ساهين.

وبسبب هذه المتابعة التي لن تتوقف، لم يأخذ حقه منا الرونق الذي اتسمت به الدورة الرابعة والعشرون لمهرجان الثقافة والتراث (الجنادرية)، بدءاً من يوم الأربعاء 4 مارس (آذار) 2009، ولمدة أسبوعين، الذي جاء على جناح من التميز كأوبريت جميلة في الجانب الفني المتطور، وفي الأبيات الشعرية العميقة المعنى التي ازدادت تألقاً فيها قريحة الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز، وألحان الموسيقار العالي الثقافة عبد الرب إدريس، وحناجر الفنانين محمد عبده، وراشد الماجد، وعبد المجيد عبد الله، وصاحب أحدث الحناجر الذهبية الفنان الشاب عباس إبراهيم.

والإشراقات التي نعنيها تتمثل في كتاب التسامح الذي يسجل فيه الملك عبد الله بن عبد العزيز بين أزمة وأخرى سطوراً جديدة؛ فتهدأ نفوس أبناء الأمة، كما تتمثل في مشروع التنوير والتطوير الذي تتسارع الخطى المدروسة من أجل الإنجاز في أوقات قياسية، بحيث تشمخ المدن الجامعية وتربط السكك الحديدية مدن المملكة ببعضها البعض، وتأخذ ابنة السعودية ما تتمناه وما يحققه خادم الحرمين، وازناً الأمور كمِثْل مَن يزن الذهب، وذلك كي لا تكون الخطوة المتخذة عرضة للتراجع عنها. وعندما تابعْنا في الأوبريت ما صدحت به حنجرة أنثوية سعودية؛ تأكد لنا أن رقعة المحظورات إلى انحسار تماماً، كما رقعة انحسار أساليب التشدد من جانب أطياف ذهب أفرادها بعيداً في التعامل الخشن مع حالات اجتماعية. وفي التعيينات المباغتة في مواقع بالغة الأهمية إشارات واضحة إلى التغيير على قاعدة حُسن التدبير.

وأما الإشراقات على الصعيد الدولي، التي تؤكد الصفة الشاعرية، أي «وطن الشموس» للمملكة، فتتمثل في الحضور المتألق للملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة العشرين التي هي في ضوء الأزمة الاقتصادية والمالية الدولية العاصفة الصيغة البديلة لـ «مجلس الأمن الدولي» الذي تستأثر به خمس دول لم تعد كبرى بمفهوم التأثير، أو فلنقل إنها باتت في أشد الحاجة إلى مَنْ يساندها. وفي هذا الصدد يجوز التوقع بأن يتلاشى مجلس الأمن كصيغة، خصوصاً أن مصداقيته بفعل «فيتو» درجت أميركا على استعماله لدرء خطر الإدانة لإسرائيل، و«فيتو»آخر درجت دولتان أُخريان، هما الصين وروسيا، على عدم استعماله عند حاجة العرب إليه، وأن تصبح قمة العشرين التي تمثل كل الدول الفاعلة في القرار المالي والاقتصادي هي مجلس الأمن الجديد تحت تسمية «مجلس الأمن السياسي والاقتصادي»، أو «مجلس العشرين»وربما تسمية أخرى. وفي هذه الحال يتمثل العرب بشخص المملكة العربية السعودية في هذا المجلس، ولا تعود مطالب توسيع عضوية «مجلس الأمن الدولي» الراهن واردة، وبالذات من جانب العرب، والهند، واليابان، وألمانيا، والبرازيل، وإندونيسيا.. الدول الأكثر فعالية في عالم الاقتصاد والمال. وفي أي حال.. إن مشاركة الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة العشرين، والتفاف الجميع حوله، وكياسة الرئيس باراك أوباما في التعبير عن تقديره واحترامه للملك، أكدت أهمية شراكة العرب مستقبلاً في القرار الدولي، وأكدت أن الخشية من «الفيتو» التقليدي إلى اندثار. وها هي «المبادرة العربية»، التي ابتكر صيغتها الواقعية الملك عبد الله، لا تجد الدول الخمس الكبرى ـ ومعها الدول الأوروبية ـ أي موجب لنقض هذه المبادرة، مع ملاحظة أن ذلك لا يكفي من جانبها لمواجهة التباطؤ الإسرائيلي في الأخذ بها حلاً لا مثيل لواقعيته بين كل المشاريع المطروحة لإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي.

وتندرج في إشراقات الملك عبد الله بن عبد العزيز ظاهرة التكريم خلال مهرجان الجنادرية لرموز الفكر والصناعة والأعمال، الذين أسهموا في رسم اللوحة الجميلة التي هي «وطن الشموس». ولقد وجدتُ نفسي شخصياً في ضوء اختيار الدكتور عبد العزيز الخويطر ليكون «الشخصية المكرَّمة» في الدورة الرابعة والعشرين لمهرجان الثقافة والتراث، أتمنى لو أن التكريم يشمل مع اليوبيل الفضي للمهرجان العام المقبل تكريم مَن هم أهل للتكريم، حتى بعد رحيلهم، أمثال الطيب الذكر الشيخ ناصر المنقور الذي كان صاحب تجربة سياسية ودبلوماسية مرموقة، وأحد شهود الحق على مسيرة الملوك الأبناء الأربعة المغفور لهم سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، والمتفائل في استمرار بمسيرة الخير بهمة الابن الخامس الملك عبد الله، أطال الله عمره، وضمن الرؤية الحكيمة والمتوازنة، وجاء تعيينه لأخيه الأمير نايف بن عبد العزيز نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء عشية التوجه إلى القمتين في الدوحة، ثم لندن، مؤشراً إلى أن البيت محروس بأعلى درجات اليقظة والأمانة والمسؤولية. وتلك مواصفات الأمير نايف، كما مواصفات الشقيق ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز الذي يدعو الجميع له بسرعة التعافي والعودة. وفي إطار الحديث حول ما يتعلق بالفكر والثقافة، كانت لافتة كثيراً لنا ظاهرة هذا التنوع في «معرض الرياض الدولي للكتاب»، الذي واكبت دورته فعاليات مهرجان الجنادرية، وكيف أن رحابة صدر الرقابة على التأليف والمؤلفين اتسعت كثيراً.. إلى درجة أن الكثير مما كنا نظنه محظوراً وجدناه في عشرات الأجنحة، وبالذات أجنحة الناشرين المصريين واللبنانيين والسوريين واليمنيين، الذين عوَّضهم رواد المعرض من الرجال والنساء على حد سواء، وبسبب القدرة الشرائية للمواطن السعودي، كساد عوائد النشر في دولهم، نتيجة شبه انعدام القدرة على الشراء، وبذلك لم يعد الكتاب من الضرورات، وإنما من الكماليات.. أو فلنقل من أنواع الترف. ونسجل، ونحن نتحدث عن الحيوية التي لمسناها في معرض الرياض الدولي للكتاب، التقدير لوزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة، الذي أراد للمعرض أن يأتي نجاحاً بحجم طموح الوزير الدبلوماسي والشاعر إلى مواكبة المشروع التنويري الرحب للملك عبد الله بن عبد العزيز، بما يتعلق بالثقافة والمسرح والسينما. وهذا يجعلنا نأمل أن نرى في دورة اليوبيل الفضي للجنادرية ـ بعد عشرة أشهر ـ حالة من النهوض المسرحي والسينمائي، تكون برُقِيّ فيلم «ظلال الصمت»، خصَّنا بمشاهدته في مكتبه المخرج السينمائي الكثير الرقي عبد الله المحيسن الذي يزرع بأحدث أعماله ـ الذي هو أول فيلم روائي عربي سعودي، وأفلامه الوثائقية السابقة، وهي «اغتيال مدينة»، و«الإسلام جسر المستقبل»، و«الصدمة» ـ حالة من النهوض السينمائي السعودي ـ العربي مستقبلاً. وكدتُ عندما جمَعَنا لقاء بالوزير خوجة أن أقول رأيي أمام جمْع من الإعلاميين والمثقفين والمفكرين، خصَّهم الدكتور خوجة ـ بصفاته كوزير، وكمثقف، وشاعر ـ بزيارة تفقدية في الفندق الذي نقيم فيه، في فيلم «ظلال الصمت»، ولماذا لم يكن ضمن فعاليات الجنادرية يشاهده العشرات من الضيوف المدعوين، ويخوضون مناقشةً، تقييماً له، ثم آثرتُ عدم الكلام لدواعي ظروف اللفتة الخوجية، لكن ذلك لا يعفيني ـ كصاحب قلم ـ من الحديث حول هذا العمل السينمائي الراقي، الذي لم أشاهد عملاً بِرُقيِّه في السينما المصرية في العقود الثلاثة الماضية، والذي يذكِّرنا بِرُقي أعمال سينمائية مصرية طالما شاهدناها في السبعينات. وفي هذا الصدد أقول إنه في انتظار أن يُجاز مبدأ عرْض الأفلام في دور سينمائية في السعودية، فإن عرْض فيلم من نوع «ظلال الصمت» على شاشات فضائيات عربية سعودية وغير سعودية مفتونة بالمسلسلات التركية المدبلجة، ومِن قبلها المسلسلات المكسيكية المدبلجة هي الأخرى، يبقى أكثر إفادة وتثقيفاً للمواطن العربي، كما أنه يشكِّل تحفيزاً للوعي العربي، وهذا أمر مطلوب في سياق استكمال بناء المشروع الفكري والتنويري والعلمي للملك عبد الله بن عبد العزيز، المواكب لمشروعه القومي في الاتجاهين السياسي والاقتصادي.. وهذا واجبه كخادم للحرمين، وحارس للأمتين.