اللغة الإعلامية والقرار الإعلامي

TT

قد يبدو من الصعب اليوم تضخيم أثر الإعلام في الحياة السياسية، بل قد يكون من الصعب حتى الإحاطة بأبعاد هذا الدور وتأثيراته الحقيقية، ليس على الحكومات والمؤسسات والمنظمات المعنية، بل حتى على مواقف الشعوب وأحكامها. فالمسألة متعددة الجوانب والاتجاهات وما زالت تتطور وتتشعب على مختلف المستويات، أو بالأحرى يتم تطويرها من قبل الجهات التي لمست مدى فاعليتها وتأثيرها.

وكنت قد كتبت في مقالات سابقة عن الاستخدام المضلل للمصطلح حين بدأ الإسرائيليون يستخدمون تعبير«الطرفين» للإشارة للإسرائيليين والفلسطينيين بهدف المساواة بين المعتدي الإسرائيلي والضحية الفلسطينية، وحين بدأوا يستخدمون تعبير«اشتباكات» للإشارة إلى جرائمهم في اغتيال طفل أو امرأة أو شاب، أو تعبير «مشتبه» به لتبرير قتلهم لطفل «اشتبه» أنه يحمل متفجرات، علما أنه عائد من المدرسة ويحمل حقيبته المدرسية.

ولكن هذه المصطلحات اليوم أصبحت أساسية حتى في نقل الخبر من قبل ضحايا العدوان أنفسهم. كما أصبح جيش الاحتلال هو المصدر الأساسي للخبر بسبب منع إسرائيل كل وسائل الإعلام الأخرى من التواجد في غزة وحتى في الضفة الغربية، حيث إن عمليات قتل الفلسطينيين تتم في أي زمان ومكان ويبقى مرتكب الجريمة الإسرائيلية هو المصدر الوحيد للخبر.

من هذا المنظور اعتبر القتلة الإسرائيليون الحقيبة المدرسية للطالبة بسمة النادري العائدة من المدرسة خطرا يبرر اغتيالهم لها، وهم يعلمون من هي بسمة النادري ولم يكن قتلها عشوائيا، فهي طفلة شاعرة كتبت القصائد لأطفال غزة.

وبالتزامن مع اغتيالهم للطفلة بسمة النادري، قاموا بقتل صمود محمد عكاشة الشابة الفلسطينية ذات السبعة عشر ربيعا، التي منعتها قوات الاحتلال الإسرائيلي من السفر إلى خارج البلاد لتلقي العلاج، كما توفيت معها فاطمة حسين الشندي أيضا من سكان مدينة غزة بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ قرابة ثلاث سنوات، وبهذا يصل عدد المدنيين العزل الذين لاقوا حتفهم بسبب إغلاق المعابر كافة ثلاثمائة وعشرين فلسطينيا وفلسطينية حتى تاريخه، والجريمة مستمرة بسبب الحصار الإعلامي الإسرائيلي والعربي على غزة ومعاناتها.

وكي تتوصل إلى مثل هذه الحقائق البسيطة حول ما يجري، عليك أن تجري بحثا شاملا، لتجد أنك لن تحصل على أي منها في مصادر أجنبية، ولن تجد ذكرا لها في الإعلام العالمي الناطق باللغة الانكليزية، وأتوقع أن يكون الأمر نفسه في الإعلام الناطق باللغات الأخرى، وبذلك يرتكب حكام إسرائيل جرائمهم ويفلتون من العقاب، ولهذا يتجرأ الوزير الإسرائيلي العنصري يسرائيل كاتس بالتهديد «بتجويع الفلسطينيين في قطاع غزة» ويهدد ليبرمان سكان غزة بالقنبلة الذرية دون أي استنكار ولو لفظي من «المجتمع الدولي» أو «الصحافة الحرة» فيما ينشغلون «بخطورة» البرنامج الكوري والإيراني، والإعلام العربي يردد كالببغاء ما يقولون وراءهم.

ولكن لو أن العرب قاموا بواجبهم فطالبوا المجتمع الدولي بإجبار «إسرائيل» على إعادة بناء كل ما دمرته في غزة، ودفع الأضرار لجميع الفلسطينيين الذي تسببت في قتلهم أو قتل أفراد من أسرهم سواء خلال العدوان الغاشم أو بسبب الحصار، لما تجرأت على الاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب ضد المدنيين الفلسطينيين. يجب أن يعتبر حكام إسرائيل مسؤولين عن وفاة كل فلسطيني في غزة بسبب الحرب أو الحصار، لأنهم هم الذين يفرضون هذه الجرائم ضد كل القوانين والشرائع الدولية.

وبسبب عدم وجود مراجعة عربية للمصادر، واللغة، والمصطلح الإسرائيلي والتصدي لها بمصادر، ولغة، ومصطلح بديل، فقد أصبحت اللغة الإعلامية المستخدمة اليوم لتوصيف أخبار الشرق الأوسط منسلخة تماما عن حقائق ووقائع الصراع العربي ـ الإسرائيلي وآفاقه المستقبلية. ومثال ذلك شرط نتنياهو على جورج ميتشل أنه على الفلسطينيين أن يعترفوا «بيهودية الدولة الإسرائيلية» قبل أن تفكر بالموافقة على إقامة دولتهم. أين يقيم الفلسطينيون دولتهم وكيف بعد أن يسلموا أن فلسطين المحتلة والمستعمرة والمستوطنة هي للمستوطنين وليست لهم، وما قيمة أي شيء آخر للفلسطينيين إذا ما اعترفوا بهذا وهم السكان الأصليون لفلسطين الذين أزيحوا، ولا يزالون يزاحون اليوم، في القدس بقوة السلاح وهدم المنازل ومصادرة الأراضي والتهجير القسري لآلاف الفلسطينيين، ليصبحوا إما لاجئين على أرضهم، أو ليجبروا على السفر خارجها. وما معنى أن يتحدث مسؤولون عن «حل إقامة الدولتين»، مع أن إحدى هاتين الدولتين ليست بحاجة إلى إنشاء من جديد فهي أقيمت وتوسعت على الأرض الفلسطينية بقوة السلاح وارتكاب الجرائم، ولكن هدف استخدام تعبير «دولتين» تجنب التركيز على إقامة الدولة الفلسطينية، لأن أي حديث عن طبيعة وصلاحيات وجغرافية الدولة الفلسطينية القابلة للحياة لا بد وأن يعني وقف وإزالة الاستيطان اليهودي للأرض العربية ووقف إجراءات التهويد الجارية في القدس، ومعالجة حقوق اللاجئين. ولذلك ينشغل المسؤولون من كل حدب وصوب بالحديث عن «إقامة الدولتين» وواقع الأمر هو أن إحدى الدولتين موجودة وتكبر يوميا على حساب حقوق وحرية واستقلال فلسطين التي تقضم أراضيها، ويهجر أهلها، وتهدم منازلها، وتتقلص مساحتها مع كل مغيب شمس بسبب هذه اللغة العائمة المضللة.

وفي كل الاتصالات والأحاديث الرسمية عن الحلول المقترحة للصراع العربي ـ الإسرائيلي يركز المتحاورون على «إسرائيل» مقابل أشخاص من الطرف الآخر بدلا من التركيز على فلسطين، وبهذا يتبعون أسلوبا برهن على أنه كارثي للعرب جميعا حين تم تلخيص العراق وشعبه بكلمتين صدرتا في التقرير الإعلامي الإسرائيلي لعام 2002 حيث طلب من جميع وسائل الإعلام العالمية حذف اسم «العراق» واستخدام هاتين الكلمتين «صدام حسين». وتضمن التقرير نفسه عدم الإشارة للفلسطينيين وحدهم بل الإشارة إلى الفلسطينيين والإسرائيليين «كطرفين».

واليوم يتم تغييب أخبار جرائم إسرائيل كليا، أو أنها تذكر في موقع غامض، أو تبث في لحظة ميتة ويتم بعد ذلك إهمال الخبر كليا وعدم ذكره. فيما تنشغل أجهزة الإعلام العالمية والعربية بالأسير شاليط، تهمل وجود أصغر أسير في العالم «يوسف رزق» الذي لم يشعل شمعته الثانية في سجون الاحتلال، وتهمل الإقامة الجبرية المفروضة على الطفل لؤي شقير في قرية مجدل شمس الجولانية المحتلة.

وها هو يوم الأسير يمر مرور الأسير على الإعلام العربي المحاصر بالمصطلح الإسرائيلي. فيما تخطف مخابرات إسرائيل وتأسر وتعذب وتقتل كل يوم من تشاء من الشباب والأطفال والنساء دون وازع، بحيث يفوق اليوم عدد الأسرى في سجونها اثني عشر ألف أسير، ولا توجد حملة دولية للتضامن معهم أو لإجبار إسرائيل على إطلاق سراحهم، ولا أحد يسمع بالإجراءات الإجرامية التي تتخذ بحقهم. وفي هذا السياق نفسه أفاجأ أن أقرأ في مجلة «الإيكونومست» مقالا مطولا عن الإبادة في رواندا، التي حدثت منذ خمسة عشر عاما، ولم أقرأ في هذه المجلة وغيرها من معالم الصحافة «الحرة» كلمة عن الإبادة في غزة، التي حدثت منذ أشهر ومستمرة حتى اليوم من خلال الحصار والمنع والاغتيال والإغلاق. وهناك شعور لدى الجميع أنه من غير المقبول الحديث عن الإبادة في فلسطين أو العنصرية البشعة التي تمارس بحق عرب فلسطين وهذا الشعور يخلقه التوجه الإعلامي الذي يستكمل العمل العسكري والسياسي الذي يقتل ويهجر ويفتك. فمتى يقرر إعلاميو العرب إيلاء هذه المعركة ما تستحقه من جهد وتمويل ودراسة وتخطيط. لقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من الدفاع عن الحقوق ومحاولة استعادتها وهي معركة ممكنة جدا لأننا أصحاب حق وأهل معرفة وأدب ولغة وفكر وحجة ومنطق. قد يكون هذا هو الباب الأول والأسهل لتغيير الموقف الدولي من قضايانا وحقوقنا.

www.bouthainashaaban.com