لبنان: .. ديمقراطية على مين؟!

TT

«الديمقراطية وسيلة لضمان ألا نُحكَم إلا كما نستحقّ أن نُحكَم»

(جورج برنارد شو)

من أظرف ما يرويه «ظريف لبنان» نجيب حنكش، ملحّن أغنية فيروز الشهيرة «أعطني النّاي وغنِّ»، عن خبراته مع الأدعياء التافهين، إصرار أحد «المتشاعرين» على إسماعه ما فاضت به قريحته تمهيداً لإرسال «القصيدة» الأفضل إلى ملحن يتولّى تلحينها.. فـ«تضرب» السوق وتزلزل الأرض.

وكان من نِعَم الباري تعالىَ على حنكش أن اكتفى «المتشاعر» بفعلتين فقط من فِعلاته الشعرية حرص على إسماعه إياهما. ولكنه ما كاد ينتهي من مطلع الأولى حتى صاح به حنكش: «خلَص... بَس... الثانية طبعاً أحسن!؟»

فاستغرب «المتشاعر»، وسأل حنكش «... ولكن كيف تحكم عليها قبل أن تسمعها؟؟». فجاء الجواب «لأنه يستحيل أن يكون هناك أسوأ مما أسمعتني إياه، يا أستاذ!»

في لبنان، قامت القيامة ولم تقعد على الديمقراطية العرجاء، وعلى «تشويه» النظام الانتخابي السيئ إرادة الناخبين. وبعد اللتيا والتي... «توافق» اللبنانيون ـ ما شاء الله ـ على العودة إلى الوراء نصف قرن... واعتماد القانون الانتخابي لعام 1960.

وكان بين الذرائع التي سوّقَت للعودة إلى قانون 1960 وانتخاب النّواب على أساس القضاء (أي الدوائر الأصغر رقعة)، مع بضعة استثناءات (؟)، «تحرير» الصوت المسيحي وإلغاء ما يسميه اللبنانيون «المَحَادل» (أي المداحل) و«البوسطات»... في إشارة إلى الدوائر الكبيرة المحكومة السيطرة عليها طائفياً حيث يفرض ناخبو الطائفة الأكثر عديداً بأصواتهم على الطوائف الأقل عديداً نوابها في البرلمان.

وفي المقابل، كان معارضوه، يعتبرون أن الدوائر الكبيرة (المحافظات أو لبنان كدائرة واحدة مع تمثيل نسبي) أفضل... لأنها تقطع الطريق على الخطاب الطائفي الضيّق، وتساعد على الانصهار الوطني.

في مطلق الأحوال، اعتمد قانون 1960. غير أن ما حدث منذ انطلاق الحملة الانتخابية الأخيرة، ومباشرة القوى المتنافسة عقد الصفقات وتشكيل اللوائح، أكّد مخاطر السلبيات التي تغاضى عنها الفريقان ماضياً وحاضراً.

فالدوائر الكبيرة المعتمَدة في الماضي لم تقطع الطريق على الخطاب الطائفي الضيّق، ولم تساعد على الانصهار أو حتى التفاعل الوطني، بل على العكس، خلّفت شعوراً عميقاً بالغبن والنفور والإحباط.

والدوائر الصغيرة لم «تحرّر» الصّوت المسيحي من «قبضة» الصوت غير المسيحي، لأن الشارع المسيحي ما زال ـ بنسبة مؤسفة ـ مكبّلا بالخطاب الغريزي الطائفي الذي يتقنه النائب ميشال عون،... بالتواطؤ مع حزب الطاشناق اليميني الأرمني، والفلول المزدهرة في «مرحلة الوصاية» على أنقاض أحزاب كانت وطنية وتقدّمية وعلمانية وليبرالية. بجانب أنه أعيد إلى «بيت الطاعة» عبر الصوت الشيعي المتأثر بـ«حزب الله»، رافعة العونيين القوية، في عدد من الدوائر بفضل «وثيقة التفاهم» التي غدت شرعة... أين منها «الماغنا كارتا» الإنجليزية.

أما هدف إلغاء «المحادل» و«البوسطات»... فلم يتحقّق إلا جزئياً، لسببين: الأول، هو الاستثناءات التي حصلت في إعادة تركيب الدوائر الصغيرة، والثاني، المفعول المستمر لأصوات المجنّسين في عدد من الدوائر المحوَرية.

إعلان الوزير نسيب لحود، يوم الجمعة الماضي، عزوفه عن الترشح للانتخابات جاء بمثابة جرس إنذار يجب أن ينبّه اللبنانيين السائرين، بين اليوم ويوم 7 يونيو (حزيران) المقبل، نحو حدثٍ يمكن أن يكون أي شيء إلا... انتخابات!

نسيب لحود، الرجل المقوّم الخلوق، والسياسي والبرلماني المهذّب والرّاقي في أدائه السياسي والتشريعي، أسقطه في الانتخابات السابقة عام 2005 تحالف الصوت الغريزي الطائفي مع كتلة أصوات حزب الطاشناق الصّماء. وكانت خسارته يومذاك إهانة للحياة البرلمانية والسياسية في لبنان.

ومرّت سنوات أربع تغيّر فيها الكثير في لبنان. وكان نسيب لحود ممّن لعبوا دوراً مشرّفاً في استعادة اللبنانيين استقلالهم بعد «وصاية» ثقيلة وممارسات تسلّطية فاسدة أساءت أول ما أساءت إلى الشعور الأخوي والقومي الذي يربط بلدين عربيين «توأمين»، ونسفت ما بدا عند قطاع واسع من اللبنانيين ثوابت ومسلّمات كان يستحيل تبديلها.

كان نسيب لحود، ولا يزال، ممن يؤمنون بـ«دولة المؤسّسات» بديلا لـ«مزرعة» عبادة الأشخاص والحزبية الضيقة والعشائرية. كما كان يأمل بوجود «قوة دفع» عند القوى التي أنجزت الاستقلال الثاني (يوم 14 آذار/مارس) 2005 كفيلة بتحصين ما أنجز من تحرير للقرار، واستعادة ـ ولو مجزوءة ـ للسيادة... والانتقال إلى المرحلة التالية باتجاه الديمقراطية الحقيقية ضمن دولة المؤسّسات والقانون واحترام المواطنية وحقوق الإنسان.

ولكن ما جرى خلال الأسابيع الأخيرة على صعيد التزاحم المريض على المقاعد النيابية، وتناسي المبادئ العامة السامية التي حققت في آذار 2005 للبنانيين ما بدا بعيد المنال... أقنع نسيب لحود بأن مجلس النواب المقبل ـ كالقصيدة التي سمعها نجيب حنكش ـ لا يمكن إلا أن يكون أسوأ من سابقه.

فحتى الصوت العاطفي الذي احتشد ونشط وفعل فعله في تحدّي نهج الاغتيالات والقمع والتصدّي له، أخذ يخبو ويفتر... عندما تضخّمت «الأنا» عند رفاق الدّرب، وصارت الحصص التمثيلية هاجساً. وبعدما انزلق مسيحيو «14 آذار» إلى «لعبة الأحجام» التي استدرجهم إليها «حزب الله» عن طريق حرصه على إهداء ميشال عون كل المقاعد الممكن توفيرها له في الدوائر المختلطة... تعزيزاً لوضعه كـ«حصان طروادة» داخل الشارع المسيحي المنكمش سكانياً، وبالتالي، أصواتاً.

وهكذا، مثلما دفعت شخصيات لامعة في مستوى سمير فرنجية ـ واليوم نسيب لحود ـ ثمن إرضاء المطالب الحزبيّة الضيّقة عند المسيحيين، دفعت شخصيّات موازية في الشارع المسلم كالدكتور مصطفى علّوش ثمن اضطرار القوى الإسلامية الأساسية في «14 آذار» لتوسيع قاعدة جذبها مناطقياً وطائفياً...

فعَن أي استقلال ثانٍ نتكلّم عندما يغيب عن البرلمان اللبناني، مجدّداً، أمثال نسيب لحود؟

وعن أي مؤسّسات ديمقراطية نتكلم عندما «تكافئ» حسابات الاسترضاء العَبَثية والفوقيّة أمثال مصباح الأحدب وسمير فرنجية ومصطفى علّوش وغيرهم... بإخراجهم من لوائح القوى المفترض أنها مؤسّساتية وديمقراطية؟

بل ماذا نقول لذكرى الشهداء، وبينهم المثقف الرائع سمير قصير مؤلف «عسكر على مين؟» غير... «ديمقراطية على مين؟»