خشونة «حسن».. ونعومة «نبيه»

TT

معركة الرأي العام الداخلي في مصر، هذه المرة، تتجه بشكل يوافق رياح الدولة المصرية في رسم الصورة العامة للمعركة مع حزب الله اللبناني.

دلائل هذا الكسب تجلت في إعادة الإخوان المسلمين لموقفهم من المعركة، بعد أن كان مرشدهم وبعض رجالهم في بداية الكشف عن خلية حزب الله في لبنان يتفّهون الاتهامات المصرية لحزب الله ويتخذون موقف المساندة لحزب الله، بحجة قدسية المقاومة وواحدية العدو الإسرائيلي، وضمنا بحجة ثبوت تهمة الخيانة، أو التقصير في أحسن الحالات، من قبل السلطة المصرية تجاه «المقاومة»، غير أنه وبعد إطلالة زعيم الحزب الإلهي التلفزيونية للرد على الاتهامات المصرية، وبعدما أقر بكل فخر بتبعية زعيم الخلية للحزب، وأنه مكلف من قبل الإلهيين بخلق بؤرة دعم للمقاومة سلاحا وعتادا، وهو الحد الأدنى الذي اعترف به حسن نصر الله، انقلبت الآية، وغضب كثير من أهل الرأي في مصر لجرأة حسن نصر الله على تهميش الدولة المصرية والتعامل مع الأراضي المصرية بوصفها امتدادا طبيعيا لمسرح عمليات حزب الله، سواء كانت عسكرية أم لوجستية أم استخبارية، حتى عتاة المدافعين المصريين عن الدولة الإيرانية والنظرية الخمينية والأحزاب الثورية الأصولية، وهم مدافعون مدمنون في صحافة مصر المصنفة معارضة، لم يجدوا مهربا إلا نقد حزب الله على تعديه على سيادة الدولة المصرية على أراضيها. وتفسير ذلك كما سمعت من أكثر من مثقف مصري، هو أن التغيير الذي حدث هذه المرة عن معركة حرب غزة مع الحزب الإلهي هو تبدل مزاج الشارع المصري، الذي كان مصدوما هذه المرة من جرأة حسن نصر الله في تحقير مبدأ السيادة المصرية على أراضيها، وهؤلاء الكتبة أصحاب الهوى الإيراني لا يتحركون، كأي حركة شعبوية، إلا في مياه الشارع، فإذا جفت هذه المياه فإنهم أمام مصير صعب وخطير، فليس لهم إلا أن يتسربوا مع مسارات ومسارب المياه الشعبية!

أكبر سند شعبي للحزب الإلهي الأصفر، وهم الإخوان المسلمون في مصر، خذلوا الحزب في هذه المعركة المحرجة للحزب الخميني مع الدولة والشارع المصري، في اللحظة التي كان الحزب بأمس الحاجة للدعاية الإخوانية المضادة ولبعض الكتاب والإعلاميين «الثورجية» في مصر، لكن «الله غالب» هذه المرة، واكتفى هؤلاء بلوم الحزب على الخطأ والعتب على الدولة المصرية لأنها «بالغت» ربما في الاتهامات، والأحسن فيهم من يقول: ننتظر التحقيقات ولوائح الاتهامات النهائية ثم حكم القضاء المصري، ثم نتخذ المواقف، عكس الموقف الإعلامي والسياسي الذي اتخذته هذه القوى المصرية أثناء حرب غزة، والتي كان فيها خطاب حسن نصر الله خطاب حرب وتحريض ودعوة للثورة والتمرد في مصر، ومع ذلك كان الإخوان وكتاب الهوى الإيراني يقدمون كامل الدعم والمساندة للحزب ضد الدولة المصرية، والحجة ـ كالعادة ـ قدسية المقاومة، وهي ذات الحجة التي استخدمها حسن نصر الله في تسويغ زرعه لخلية «شهاب» في مصر، لكن حلفاءه في أرض الكنانة لم يكرروا المناصرة الساخنة، فهل فقدت المقاومة قدسيتها هذه المرة؟!

لم يبق للحزب الإلهي إلا أن يستعين بمن معه في لبنان، فانبرى «حلال المشاكل» وسيد البلاغات اللفظية، والوجه «الحليق» لحزب الله، أعني السيد نبيه بري، فناور، وفكر وقدر، ثم فكر وقدر، وقال أخيرا: نريد القضاء على «صناعة الخلافات».. جملة ذكية ورشيقة ومبدعة من قبل السياسي «المعلم» نبيه بري، «صناعة الخلافات» تأملوا فيها، هو يريد القول: الخلافات هذه ليست ذات وجود ضروري وطبيعي بل هي «مصنوعة» دون أن يقول لنا من الذي صنعها وقام على تركيبها وإخراجها كمنتج صناعي للعموم والإعلام.. طبعا الصانع هنا هو مصر، فهي التي كشفت وهي التي اتهمت وهي التي تنازل الحزب الإلهي إعلاميا وسياسيا، أما حزب الله فهو الذي وقع عليه ضرر هذه الصناعة، وهو الطرف السلبي في هذه العلاقة الصناعة.

شيء أفضل من هذا وأكثر إبداعا قاله بري، فهو تحدث عن أن ما بين مصر وحزب الله هو مجرد خلاف في «وجهات النظر» ونقل موقع قناة «العالم» الإيراني الإخباري عن بري قوله إن المقاومة في لبنان غيورة على الأمن المصري، داعياً إلى طي الملف وإلى حوار يمنع صناعة الاختلافات. وأضاف: «نقول إن ما جرى على خلفية الاعتقالات لأفراد شبكة في مصر، هو خلاف في وجهتي نظر ترى الأولى أن غزة تشكل حديقة خلفية لمصر يؤثر اللعب بها على مصالح النظام، وبين وجهة نظر أخرى ترى أن غزة مساحة مقاومة وقاعدة ارتكاز للمقاومة».

هو خلاف وجهات نظر إذن، فلا موجب لهذا التهويل المصري.

وذهب بري إلى درجة تقديم الضمانة والتأكيد الشخصي أن حزب الله لن يعتدي على الأمن القومي المصري، دون أن يقول لنا ما هو مفهومه للأمن القومي، وهل يعتبر قيام خلية سرية بتهريب السلاح وتكوين خلايا استخبارات ورصد من وراء ظهر الدولة هو خرق للأمن القومي أم لا؟

بكل حال، الخارجية المصرية على لسان وزيرها أحمد أبو الغيط أقفلت الباب أمام هذه المناورات البرية (نسبة للسيد بري) وقال الوزير المصري بالنص: «قضية التنظيم التابع لحزب الله، ليست خاضعة لأية مسائل سياسية، أو محاولات لاستخدام الوساطة»،

شخص آخر، ينطبق عليه ما قاله الشاعر: أنا الغريق فما خوفي من البلل! وهو جميل السيد، اللواء المسجون بقضية اغتيال الحريري، كتب من سجنه مقالا، في جريدة السفير، يقدم فيه رؤيته لأزمة خلية حزب الله في مصر، وهي في مجملها لا تخرج عن رؤية نبيه بري، عبر ترضية الطرفين، «الدولة» المصرية و«الحزب» الإلهي فكلاهما لديه «وجهة نظر» أو حسب كلام اللواء المسجون بأن مصر: «محقة مبدئياً في انزعاجها من استخدام أراضيها من دون إذنها، ممراً للإمداد العسكري إلى المقاومة الفلسطينية في غزة. كما يجب الاعتراف بالمقابل بأن «حزب الله» محق في استيائه من التشهير به على هذا النحو، فيما قيادة هذا الحزب تدرك تماماً أنها لم تتجاوز الاعتبارات السيادية لمصر على أراضيها، إلا لغاية أسمى، وهي مد يد العون إلى المقاومة الفلسطينية».

ماذا تفهم من هذا الكلام؟ لا شيء.. إلا شيئا واحدا، يا مصر: «لملمي الموضوع»، ويا حزب الله: «انتبه في المرة الجاية»!

المحزن في هذا الموضوع هو غياب الدولة اللبنانية بشكل فاضح عن هذا الملف إلا تحركات وبيانات عادية جدا مثل البيان الصادر من رئاسة الجمهورية بأن الرئيس سليمان «أبدى اهتماماً بمتابعة المسألة ومعالجتها».

في هذه المعركة، يلاحظ هذه المرة تركز الجهد المساند للحزب في دوائر طبيعية ومحلية، وهي لبنان وكان الدعم الأبرز من حركة أمل واللواء المعروف الهوى جميل السيد، وخارج لبنان كان مقتدى الصدر على الموعد وقدم دعمه اللفظي الساخن للحزب، ولو كان رجالات نصر الله يفحصون المشهد جيدا، لعلموا أن الحزب في حالة ارتداد إلى القمقم الطائفي الغريزي حاليا.

النقطة الأخيرة تقودنا إلى ملاحظة نقدية ضد بعض الإعلام المصري وأيضا بعض الاتهامات الرسمية التي وجهت للحزب، لم يكن من الصواب ولا الصحيح اتهام حزب الله بنشر التشيع في مصر، هذه تهمة لها تأثير طائفي سيء، وليست مفيدة في سياق المعركة، وضررها يكمن في استهداف طائفة بأكملها في العالم الإسلامي، بدل أن تكون المعركة محصورة في التيارات المساندة لإيران في أحلامها الأصولية القومية، ونحن بغنى في هذه المنطقة عن سكب النار على الزيت الطائفي، ولذلك كان الوزير الشيعي اللبناني المعتدل، إبراهيم شمس الدين، وهو مخالف لحزب الله، محقا حينما أبدى دعمه للسيادة المصرية الكاملة على أرضها وحماية أمنها، لكنه أبدى انزعاجه من تهمة «تشييع مصر» لأنها تهمة تجرح مشاعر الشيعة كلهم، وليس حزب الله هو الشيعة، كما أنها غير مفيدة في توسيع دائرة الأنصار في الحرب ضد إيران وأحلافها.

هذه ملاحظة كان لا بد من قولها حتى تكون المواجهة في إطارها الصحيح، وحتى لا نخرج من حفرة حزب الله لنقع في مستنقع التعصب الطائفي المضاد.. وأما سيادة مصر فلن يمسها سوء ما دام أن الأداء المصري السياسي على هذا المستوى من الحزم واليقظة، لن يمسها لا خشونة حزب الله ولا نعومة نبيه بري.

[email protected]