الإبقاء على التحول الأفريقي

TT

على امتداد ما يتجاوز العقد، تحرك الكثير من الدول الأفريقية قدماً، حيث تنامت معدلات النمو وتراجعت معدلات الفقر، وانتشرت رقعة الحكم الديمقراطي، لكن الأزمة المالية الراهنة تهدد بتقويض هذا التقدم من خلال تقليص الاستثمارات والصادرات والمساعدات في وقت تحتاج فيه القارة إلى زيادتها لتعزيز هذه النجاحات.

وبينما تَرَكَّز الاهتمام الدولي على الأحداث الجارية بإقليم دارفور والصومال وزيمبابوي، شهد العديد من الدول الأخرى بمختلف أرجاء القارة، بما فيها غانا وتنزانيا وموزمبيق وليبريا، تحولات هادئة. وتشير الأرقام إلى أن معدلات النمو الاقتصادي عادة ما تتجاوز 5% في العديد من الدول الأفريقية. ومنذ عام 2000، ارتفع عدد الأطفال الأفارقة الملتحقين بالمدارس بمقدار 34 مليون، ويعيش ما يزيد على 2 مليون أفريقي على تناول عقاقير مكافحة مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز). وبالإضافة إلى ذلك، تراجعت معدلات الوفيات من جراء الإصابة بالملاريا بمقدار النصف في رواندا وإثيوبيا، وتم القضاء فعلياً على المرض في زنجبار. وفي الوقت ذاته، تشهد معدلات الفقر تراجعاً سريعاً، حيث انخفضت من 58% إلى 51% بمختلف أرجاء القارة في غضون ست سنوات فقط، طبقاً للإحصاءات الصادرة عن البنك الدولي.

أما العامل الرئيسي وراء هذا التقدم، فيتمثل في توافر قيادات أفريقية أقوى، ونمط من الحكم ينطوي على قدر أكبر من المساءلة والمحاسبة. واليوم، يتجاوز عدد الدول الديمقراطية في القارة 20 دولة، بعد أن كانت ثلاث دول فحسب في الثمانينات. وتتميز هذه الدول بانتخابات تنافسية، وشهد مجال احترام حقوق الإنسان بها تحسناً ملحوظاً، وحظيت مؤسساتها الإعلامية بحرية أكبر بكثير عن ذي قبل. وقد لاقت هذه الجهود دعماً من قبل الولايات المتحدة وشركاء آخرين، متمثلاً في المساعدات التنموية ذات الفعالية المتزايدة.

ولتنظروا إلى ما كان عليه الحال في وطني، ليبريا، فبعد حرب مدمرة استمرت 14 عاماً، جابهنا تحديات كبرى، مع تمتعنا في الوقت ذاته بالقليل من الموارد الثمينة. وعملت حكومتنا المنتخبة ديمقراطياً مع شركاء دوليين وعدد متزايد من المستثمرين الممثلين للقطاع الخاص؛ لإحداث تحول بالبلاد. وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، تمكَّنّا من مضاعفة معدلات الالتحاق بالمدارس بمختلف أنحاء البلاد، وقمنا بتجديد مئات المنشآت الصحية، وشرعنا في إعادة بناء الطرق والمولدات. كما اتخذنا خطوات اجتثاث الفساد من جذوره، والتخلص من المسؤولين منعدمي الأخلاق. وتجاوز معدل النمو 8% سنوياً. والأهم من كل ذلك.. أننا نتمتع الآن بالسلام. ونقف الآن على الطريق نحو استعادة الوجه المشرق لأمتنا. ونجحنا بالفعل في إحياء العامل الجوهري اللازم لإنجاز ذلك، ألا وهو الأمل، إلا أنه بدون توافر دعم دولي، لم نكن لنتمكن من إحراز هذا التقدم، وكنا سنجابه خطر التردي مجدداً في هوة الحرب على نحو أكبر.

والآن، تهدد الأزمة الاقتصادية مسيرة التقدم في بلادي ودول أخرى بالقارة الأفريقية، ذلك أنه من الممكن خسارة القارة لدخل يقدر بـ 50 مليار دولار خلال العامين المقبلين. والملاحظ أن انحسار معدلات التحويلات النقدية والتدفقات التجارية والاستثمارات بمقدوره تقويض الشركات الجديدة، ودفع الملايين إلى صفوف البطالة، وزيادة التوترات، وتفاقم زعزعة الاستقرار. والمؤكد أن الأزمة ـ التي لم يكن لأفريقيا أي يد في وقوعها ـ تتطلب استجابة قوية. وعلى الدول الأفريقية الاضطلاع بمسؤوليتها من خلال المضي قدماً في مكافحة الفساد، والقضاء على الروتين، وتقليص العقبات أمام نمو القطاع الخاص. ومثلما تحتاج الدول الصناعية إلى محفزات، فإن الاقتصاديات الأفريقية بحاجة إلى تعزيز تقدمها على هذا الصعيد. وشكلت قمة مجموعة العشرين التي انعقدت أخيرا خطوة أولى مهمة في هذا الاتجاه. ومن أجل ضمان الاستمرار في التقدم، هناك خمس خطوات أخرى حيوية يتعين اتخاذها.

أولاً، يجب على مجموعة الدول العشرين الوفاء بتعهدها بإمداد صندوق النقد الدولي بموارد جديدة، خاصة أنه يتعين على الصندوق توجيه هذه الموارد بسرعة إلى الدول التي تحتاجها، دون ربطها بشروط مرهقة.

ثانياً، على البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي تعزيز مواردهما ومستوى الدعم الذي يقدمانه، وتحسين مستوى جهودهما لدعم البرامج المعنية بالنمو وخلق الوظائف وشبكة الأمان. أيضاً، يجب أن تتحلى مؤسسة التمويل الدولية، وهي ذراع البنك الدولي في التعامل مع القطاع الخاص، بمستوى خاص من الإبداع والابتكار؛ من أجل الإبقاء على الاستثمارات الخاصة على المسار الصحيح.

ثالثاً، على الشركاء الثنائيين الالتزام بوعودهم لزيادة المساعدات، وإضفاء قدر أكبر من الفعالية عليها؛ للحد من التأخيرات البيروقراطية، والإسراع من الإنفاقات، وتحقيق تناغم أكبر بين البرامج وأولويات الدول الأفريقية.

رابعاً، يجب أن تستغل وكالات ضمان ائتمان الصادرات مواردها، للتغلب على المخاطر والعوائق الأخرى أمام التمويل التجاري، مثل المسائل المرتبطة بالسيولة.

خامساً، يتعين على كافة الدول التصدي للضغوط الحمائية، بحيث تتحول التجارة إلى محرك حيوي لاستعادة النمو الاقتصادي العالمي.

في الوقت ذاته، ينبغي على مواطني وقادة الدول المانحة إدراك مدى أهمية المساعدات فيما يتعلق بظهور نمط القيادة الجديد في أفريقيا، ومدى التقدير الذي يكنه غالبية الأفارقة حيال هذه الشراكة. من ناحيتهم، يقول النقاد «إن الاقتصاديات الأفريقية تنكمش، بينما تتفاقم معدلات الفقر»، ويشيرون بأصابع الاتهام عن ذلك نحو فشل المساعدات. لكن هذه الحجة تنتمي إلى فترة ولت منذ عقد على الأقل. أما الآن، فأصبح التحول الذي تشهده القارة الأفريقية حقيقياً، والأدلة المؤكدة لوجوده دامغة. وقد شكل الأفارقة أنفسهم عنصراً جوهرياً في إحداث هذا التحول، لكن المساعدات الأكثر فعالية لعبت أيضاً دورا مهما. والمؤكد أن تقليص المساعدات سيسفر عن تباطؤ عجلة نمو القطاع الخاص، وتوقف جهود الحد من الفقر، وتقويض السلام والاستقرار في البلاد التي تناضل كي تتحول إلى جزء من الاقتصاد العالمي.

ولا شك أنها ستكون مفارقة قاسية أن تتراجع الإمكانات المتاحة أمام أفريقيا، جراء أزمة خارج نطاق سيطرتها، في ذات الوقت الذي بدأت تجني ثمار النجاح. ومن الممكن أن تساعد إجراءات قوية من قبل الحكومات الأفريقية ودعم نشاط من جانب المجتمع الدولي في الحفاظ على القارة على المسار الصحيح. وعلى الجانبين الاستمرار في الاضطلاع بواجباتهما على هذا الصعيد.

*رئيسة ليبريا ومؤلفة كتاب «هذه الطفلة ستكون عظيمة الشأن: مذكرات حياة حافلة لأول رئيسة أفريقية»

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ («الشرق الأوسط»)