السلام في زمن التطرف

TT

لم تكن مفاجأة كبيرة تراجع نتنياهو عن الشرط الذي وضعه قبل أسبوع تقريباً لاستئناف التفاوض مع الفلسطينيين وهو اعترافهم بيهودية الدولة الإسرائيلية، لسبب بسيط، وهو أنه كان يضع حجارة تغلق الطريق تماماً أمام تيار عالمي جارف استقر على أن الحل النهائي لهذا الصراع الذي يهدد السلم والأمن الدوليين يجب أن يتحقق على أساس حل الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا يستطيع أحد أن يقف أمامه وإلا يكون كمن يسير ضد التاريخ.

وقد راقبت المنطقة والدول المعنية بعملية السلام الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وتولي الائتلاف اليميني ـ الذي يضم عناصر متشددة لها آراء متطرفة للغاية مثل الوزير ليبرمان ـ مسؤولية الحكم في إسرائيل بقلق على آمال إطلاق جهود السلام والتوصل إلى تسوية للصراع العربي الإسرائيلي في المدى المنظور، وكانت هناك حالة ترقب وشبه شلل في أي مبادرات أو أفكار جديدة بانتظار ما سيخرج عن هذه الحكومة، وجاءت التصريحات الأولية منها غير مطمئنة وتبعث على التشاؤم.

لكن هذه الإشارات الأولية التي صدرت من هذه الحكومة، والتي كانت بمثابة بالونات اختبار، واجهت حائط صد من الدول المعنية بالسلام في المنطقة ومن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يشدد على أنه لا تراجع عن حل الدولتين والتفاهمات التي حدثت سابقاً في أنابوليس، أو في مسارات التفاوض السابقة، والمؤمل أن تكون الرسالة التي ستوجهها الإدارة الأميركية الجديدة إلى نتنياهو، خلال زيارته إلى واشنطن في مايو واضحة بهذا الشأن.

وما يغيب عن البعض هو أن سياسات واستراتيجيات الدول لها قواعدها والتزاماتها في النهاية، وهناك مبادئ وأفكار يصبح لها قوة القانون التي لا يستطيع أحد أن يخرج عنها وإلا سيدفع ثمنها غالياً من مصالحه، وقد اكتسب حل الدولتين والمبادرة العربية للسلام كخريطة طريق من أجل الوصول إلى سلام شامل وعادل في المنطقة شرعية دولية أصبح من الصعب فك الالتزام بهما لأي طرف.

والجانب الإسرائيلي يدرك ذلك جيداً، أياً تكن توجهات السياسيين الذين يتولون الحكم فيها، لكن بالطبع هناك مسافة بين الأفكار والمبادئ ونقلها إلى أرض الواقع والمدى الزمني الذي تتحقق فيه، وهي المساحة التي قد تحاول الحكومة الحالية المناورة فيهما بهدفين؛ الأول استهلاك الوقت، حتى تتآكل تدريجياً هذه الأفكار والمبادئ، وتترسخ حقائق جديدة على الأرض، وينساها العالم، أو دفع الأطراف العربية إلى اليأس وقلب الطاولة ليبدو أمام العالم وكأنه الطرف الذي تراجع، وبالتالي يصبحون في حِل من هذه الالتزامات.

وهنا تأتي مهمة الأطراف العربية صاحبة المصلحة في المحافظة على قوة الدفع، والإلحاح على إبقاء فكرة الدولتين ومبادرة السلام حاضرتين أمام المجتمع الدولي والقوى المؤثرة فيه، بغرض الدفع في اتجاه الضغط على إسرائيل من أجل اتخاذ سياسات جدية تنسجم مع الرؤية المطروحة لحل عادل لهذا الصراع الذي استهلك المنطقة عقوداً.

وبالطبع فإن قضايا مثل وحدة الصف الفلسطيني, والتنسيق العربي للحديث بصوت واحد فيما يتعلق بقضية السلام وجدوله الزمني يحقق أكثر من نصف المهمة، ولا يترك فرصة للأطراف الأخرى للتحجج بأنه لا يوجد طرف جدي على الناحية الأخرى للتفاوض معه، أو أن الرؤية العربية متباينة أو متنافسة.

وهي مهمة ليست سهلة لأن واقع الأمر هو أن هناك تداخلات إقليمية كثيرة بأجندات مختلفة تستخدم القضية الفلسطينية كمجرد ورقة أو أداة في تسوية ملفات أخرى، بما يخلق حالة من التشوش والصراع ليست خافية على العالم، ومع ذلك فإن وجود إرادة صلبة وتركيز على الأهداف الاستراتيجية سيخفف أثر هذه التجاذبات في التأثير على التيار العام المدعوم بشرعية دولية.