مصر.. وحزب الله

TT

يخطئ من يظن أن ما تم من اكتشاف الشبكة الإرهابية لحزب الله في مصر أنها تخص العلاقة المتوترة بين مصر والحزب، بل لعلها تخص المنطقة العربية كلها أكثر منها مرتبطة بهذه العلاقة. فما نحن بصدده أولا ليس عملية لنقل السلاح والعتاد والمعونات إلى غزة في ساعة محنة تاريخية يعيشها الفلسطينيون. فالثابت من التحقيقات الجارية أن زرع الخلية الأولى، وبداية العمليات لبناء الشبكة قد بدأت منذ عام 2005، وتم اعتقال المتهم الرئيسي محمد سامي منصور يوم 19 نوفمبر الماضي، وقبل اشتعال حرب غزة بأسابيع أي بعد ثلاث سنوات منذ لحظة البداية. وثانيا أن ما لدينا هو بنية أساسية كاملة لعمليات العنف المسلح التي تتيح لمن يتحكم فيها أن يوجهها في اتجاه عمليات متنوعة، وأهداف مختلفة، قد يكون قطاع غزة واحدا منها، ولكنه ليس أولها أو أكثرها أهمية. وثالثا أن العملية كلها لم تكن علاقة بين بيروت، حيث تصدر الأوامر، والقاهرة، حيث تنام قيادة الشبكة، وسيناء وقناة السويس، حيث يكون مكان العمليات، ولكنها جزء من شبكة دولية تتداخل فيها مجموعة من العمليات المتشابكة التي تتضمن تهريب السلاح من إيران عبر الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي والبحر الأحمر إلى الموانئ السودانية ومنها عبر أرض السودان إلى مصر، أو إلى غيرها. ورابعا أن شبكة بهذا الحجم وتعدد الجبهات فيها من المرونة التي تجعل ضرب أهداف في عدد من الدول العربية ممكنا، وليس معلوما القدر الذي يربط هذه الشبكة بشبكات أخرى في اليمن أو البحرين أو بدول عربية أخرى من دول «الطوق» أو خارجها. وخامسا، أن شبكة بهذا الحجم والتنوع والإمكانيات لا يمكن أن تتحرك بمثل هذه القدرة والاتساع ما لم تكن تعمل بالتنسيق الكامل مع مخابرات وقدرات وإمكانيات دولة، وهي في هذه الحالة إيران.

كل ما سبق يقول بوضوح إن المسألة ليست بين مصر وحزب الله، أو بين القاهرة وحسن نصر الله، وإنما الأمر واقع على المحك بين القوى الراديكالية والثورية من ناحية وقوى الاعتدال في المنطقة من ناحية أخرى. ومن الممكن وضع الخطوط الفاصلة بين المعسكرين من خلال البحث في جماعات التأييد والرفض لما جرى خلال الأيام القليلة الماضية، حيث جرت عمليات فرز مثيرة توضح الفاصل ما بين الأسود والأبيض ساعة طلوع فجر صراع بدأ يدخل مرحلة جديدة رغم أنه كما ثبت من التحقيقات بدأ التحضير له منذ فترة طويلة، فلا كانت حرب تموز 2006، ولا حرب غزة 2008، من قبيل الصدف التاريخية، وإنما كانت حروب تحضير لما سوف يتلوها من خطوات ثورية وعنيفة وممتدة إلى دول عربية عديدة.

وما نحن بصدده لا يزيد ولا يقل عما جرى من قبل القوى الراديكالية في تاريخ الشرق الأوسط، حينما كانت القضية الفلسطينية هي قميص عثمان الذي ينشر مخضبا بالدم لنشر الفتنة، حيث تكون المواجهة والممانعة والصمود والتصدي جزءا ليس من عملية تحرير الأراضي العربية المحتلة، أو استعادة الحقوق الفلسطينية، ولكنها جزء من عملية قوامها أولا السيطرة والتحكم من قبل حزب أو جماعة سياسية في بلد عربي؛ وثانيا زعزعة الاستقرار في البلدان العربية الأخرى التي لم تقبل الابتزاز، ودفع جماعات ثورية فيها إلى التمرد وقلب الأوضاع السياسية. ولا نحتاج هنا لضرب الأمثلة لكيف كانت القضية الفلسطينية سلاحا في يد صدام حسين للسيطرة على العراق، ومن بعدها غزو الكويت، وكيف كانت أداة في يد البعث السوري للسيطرة على سوريا وغزو لبنان والتدخل في شئونها كلما كان ذلك ممكنا، وهي الآن الأداة الطيعة في يد إيران ومنها إلى حزب الله للتحكم في السياسة اللبنانية (هل سمع أحد منكم في العالم كله عما يسمى الثلث المعطل؟!) ومن بعدها التسلل المسلح إلى البلدان العربية الأخرى. ولم يكن هناك مشكلة من أي نوع لدى حسن نصر الله عندما تحدث عن وجود شبكته في مصر، باعتبار ذلك من الأمور الطبيعية التي تجري بين جماعة الأمة الواحدة سواء وافق المصريون أم لا، أو وجدت حكومتهم أن في الأمر ما يهدد أمن البلاد، فكل ذلك لا يحتاج موافقة وإنما السمع والطاعة لمن يعرفون كيف يديرون المعركة.

وهكذا جرى الاصطفاف في المنطقة ليس فقط بين دول الشرق الأوسط العربية منها وغير العربية، بل أيضا داخل الدول العربية ذاتها، حيث كثيرا ما تخالط الخيوط البيضاء والسوداء في ظلام لا يطلع له فجر. وربما كانت الحالة السودانية واحدة من أمثلة هذا الاصطفاف، فما لدينا لا يزيد على دولة واسعة الأرجاء، كثيرة الإمكانيات والقدرات، ومع ذلك جاءتها الراديكالية الإسلامية بفيروسها، فجرت الحروب الدينية والثورية والإرهابية، ومع مرور السنوات كانت النتيجة هي استعداد للانفصال بين الشمال والجنوب والانفلاق بين الوسط والغرب في دارفور، وبؤر شتى للتفتت والانهيار، وفوق كل ذلك رئيس مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك ووسط هذه الظروف المرة، سوف نجد رئيس السودان التي على وشك الانضمام إلى صفوف الدول الفاشلة في العالم يصل إلى الدوحة لعناق الرئيس الإيراني ساعة حرب غزة، ومن بعدها نجد بلاده ممرا للأسلحة إلى مصر، وجزءا مهما في الشبكة التي يقيمها حزب الله انطلاقا من إيران. وبينما تجري عملية تفكيك السودان تجري معها عملية أخرى لتفكيك اليمن هي الأخرى من خلال معارك جبلية صعبة مع الحكومة المركزية حتى ولو كانت اليمن من المستهلكين بإدمان للقضية الفلسطينية. وكل ذلك لكي تترابط قواعد وعلاقات بين دول فاشلة متعددة، حيث تسود الفوضى والحركات الثورية والدعاوى الدينية والحماس المذهبي، وكل ذلك تحت الراية المقدسة للقضية الفلسطينية ومواجهة اغتصاب فلسطين.

وفي الحالة المصرية دروس وعبر، فيد الدولة المصرية ليست ككل الأيادي، ولديها من الخبرة والثقل ما جعلها تتعامل مع الشبكة بحرفية عالية، ولذلك فإن الاقتراب العسكري صاحبه اقتراب سياسي من قبل جماعات المعارضة المصرية التي كان لبعضها من السذاجة ما أوقعها في فخ القبول بتهديد الأمن المصري من أجل العيون الفلسطينية كما يلوح بها حزب الله. ومع الاقتراب السياسي كان هناك الاقتراب الدعائي، حيث يوجد طابور طويل من العرب المحبطين الذين كانوا دوما على استعداد للهتاف والسير وراء كل من يعد بتحرير فلسطين حتى لو كان طريق التحرير يمر بالكويت أو القاهرة أو بيروت. وهؤلاء كانت الفضائيات العربية هي الموطن الذي يتجاهل الحقائق والوقائع من أجل صيحة نضالية إضافية.

كل ذلك لم يكن ليحدث لولا وجود حالة من الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، وقديما قيل إن الأشرار انتشروا عندما تخلى الأخيار عن أدوارهم، أو تواروا اتقاء السلام، أو خضعوا لشعارات لامعة وروايات براقة. وخلال الأيام القليلة الماضية كانت هناك كثير من الكتابات في القاهرة، والعواصم المعتدلة، كلها تبدأ بالمقدمة الاعتذارية المندهشة بالتقدير لحسن نصر الله وحزب الله وما كان من تاريخه «المقدر» في المقاومة، ورصد لانتصار قام تماما على المعايير الإسرائيلية التي لا تجعل هناك قيمة لعربي مدني أو عسكري، ولا للنتائج الإستراتيجية للحرب كما وقعت على الأرض، وأدت عمليا إلى أن حسن نصر الله نقل مقاومته من لبنان، وتحرير مزارع شبعا إلى القاهرة.

لقد آن الأوان لمواجهة حالة الفوضى «غير البناءة» التي تريدها إيران ومن يتبعها؛ لأن هذه الحالة سوف يكون لها امتداداتها المستقبلية. وإذا كانت مصر قد نجحت هذه المرة فإنه لم يعرف عن القوى الراديكالية أنها تفقد الأمل أو الإصرار خاصة عندما يكون الأمر متعلقا بدول وأمم عربية، حيث يكون الإصرار على التدمير وإثارة الفزع والتقسيم في أقصى درجاته من الحدة. ولا يوجد لدي شك أن الأيام الماضية جرى بينها الكثير من التشاور، ولكن الأمر يحتاج لما هو أكثر من التعاون وتبادل المعلومات، وإنما يحتاج الأمر إلى نظرة إستراتيجية شاملة؛ لأن المسألة أكبر بكثير من مجرد شبكة إرهابية في مصر؟!