عندما يصبح شعار «المقاومة» غطاء للاختراقات الإيرانية!

TT

تحتاج المفاهيم التي بادرت «أوركسترا» الدفاع عن حزب الله، بالنسبة لمشكلته مع مصر، إلى ترويجها على أنها مسلمات لا تجوز مناقشتها، إلى المزيد من التدقيق والمراجعة، فتصوير هذا الذي جرى على أنه مجرد خلاف في وجهات النظر، كما قال رئيس مجلس النواب اللبناني الأستاذ نبيه بري، وأنه محصلة تصادم خط «المقاومة» مع خط «الاستسلام والتفريط»، كما قال آخرون هو تشويه مدروس ومقصود لحقائق الأمور، هدفه ابتزاز الذين رفضوا المس بالسيادة المصرية باسم ضرورة تمرير الدعم «اللوجستي» إلى غزة المجاهدة المحاصرة.

ولعل الذين استمعوا إلى خطاب الشيخ حسن نصر الله الذي تصدى فيه للدفاع عما ارتكبه حزبه بحق مصر، تنفيذا لأوامر فيلق القدس واستجابة للتطلعات الإيرانية في هذه المنطقة، أدركوا أن التسلح بحجة «المقاومة» هدفه دغدغة العواطف الشعبية وإرهاب الأنظمة العربية التي لا تخيط بمسلة الولي الفقيه في طهران، وحملها تحت سطوة ونفوذ هذه الشعارات للانحناء للإيرانيين والتسليم لهم بالدور القيادي الذي يعتقدون أنهم يستحقونه في الشرق الأوسط كله.

كانت إيران، بعد أن ارتطمت بجدران الأنظمة العربية التي وقفت في وجه تصدير ثورتها، والتي رفضت تطلعاتها في هذه المنطقة، قد أعادت صياغة «تكتيكها»، وأخذت بعد توقف حربها مع العراق في عام 1988 تطرح نفسها على أنها حاضنة المقاومة الفلسطينية، وأنها رافعة راية التحرير، والهدف الذي لا يزال مستمرا هو عزل هذه الأنظمة ومحاصرتها وإضعافها وإرغامها تحت ضغط شعوبها على التسليم للإرادة الإيرانية، ورفع الأيدي أمام تطلعاتها لأن تكون الرقم الرئيسي في المعادلة الشرق أوسطية. وهنا ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة، التي هي أساسية وجوهرية بالنسبة للصراع الذي دأبت إيران على إقحام المنطقة فيه منذ أن تغلب خط «الثورة الدائمة» في مطلع ثمانينات القرن الماضي على خط بناء الدولة الإسلامية، الأنموذج الجاذب الذي يجب أن يحتذى، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قد قال وكرر القول في العرض العسكري الذي أجرته القوات الإيرانية قبل أيام أنه يريد أن تصبح بلاده شريكا رئيسيا في إدارة العالم. إن هذا هو بيت القصيد وهو مربط الفرس، فإيران الثورة لم تنظر إلى فلسطين إلا من ثقب تطلعاتها للهيمنة على هذه المنطقة لتفرض نفسها شريكا للولايات المتحدة، إن ليس في إدارة العالم كله ففي الشرق الأوسط وفي هذا الإقليم الممتد من المغرب، الذي بلغ التدخل الإيراني في شؤونه الداخلية حدا مقلقا وغير محتمل، إلى آخر نقطة على الحدود الأفغانية الصينية. كان ياسر عرفات أول مسؤول عربي زار إيران بعد أيام معدودات من انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979، ولذلك ولأنه رفض أن تكون القضية الفلسطينية جسرا لامتداد هذه الثورة إلى المنطقة فقد بدأ الإيرانيون البحث عن بديل فلسطيني يقبل بما لم تقبل به لا «فتح» ولا منظمة التحرير، وكانت النتيجة أن ظهرت «حماس» في عام 1987 بعد مرحلة تمهيدية استمرت منذ إخراج المقاومة من بيروت في عام 1982، ولاحقا من لبنان كله، ثم ظهرت بعد ذلك حركة الجهاد الإسلامي وأخذ قادة بعض التنظيمات الفلسطينية التي كانت تصنّف على أنها قومية ويسارية يرتدون ذقونا وفقا للمواصفات الإيرانية.

لم تكن إيران معنية في أي يوم من الأيام بفلسطين وبالمقاومة الفلسطينية خارج دائرة تطلعاتها المدعومة بنزعة فارسية قديمة نحو المنطقة العربيةـ ولذلك وتلاؤما مع حسابات الشراكة المنشودة بين بلاده والولايات المتحدة الأميركية في هذه المنطقة فقد أصدر الولي الفقيه السيد علي خامنئي فتوى نافذة في ذروة مأساة غزة منع بموجبها أي إيراني من التطوع كمقاتل انتحاري في أي من الفصائل الفلسطينية.

وبالتأكيد فإن هذه الفتوى قد أخذت طريقها إلى لبنان وشملت حزب الله أيضا، والدليل هو أن حسن نصر الله، الذي لم يجد ما يبرر به إقامة شبكة مخابراتية لحساب إيران وتطلعاتها في المنطقة إلا رفع راية» المقاومة و«الدعم اللوجستي» لغزة المحاصرة، قد أعلن وبوضوح وبلا أي خجل ولا وجل أنه يمتنع عن فتح جبهة الجنوب اللبناني خلال العدوان الإسرائيلي على غزة لأنه لا يريد إقحام لا بلده ولا حزبه في حرب هي ليست حربه.

لقد كان على حزب الله، لو أنه فعلا لا يزال حركة مقاومة، وأن هم القضية الفلسطينية هو همه الرئيسي، ولو أنه في حقيقة الأمر لا يشكل رأس جسر للنفوذ الإيراني في هذه المنطقة، أن يفتح أبواب جبهة الجنوب خلال العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة أمام المخيمات الفلسطينية الجنوبية المسلحة، وألا يمنع وبالقوة بعض فصائل المقاومة من إطلاق صواريخ «الكاتيوشا» على القرى والمدن الإسرائيلية في شمالي فلسطين للتخفيف على الشعب الفلسطيني الذي كان يتعرض لمذبحة بربرية بشعة.

وحتى بالنسبة لاختطاف العسكريين الإسرائيليين في تلك العملية التي كانت مبررا للحرب الغاشمة التي شنتها إسرائيل على لبنان في يوليو (تموز) عام 2006، فإن الهدف لم يكن لا مقاومة ولا «هُم يحزنون»، لقد كان الهدف الحصول على أسرى لمبادلتهم بأربعة من الدبلوماسيين الإيرانيين لا تزال إيران تصر، على الرغم من النفي الإسرائيلي المتكرر، على أنهم معتقلون في السجون الإسرائيلية منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الملحق العسكري الإيراني أحمد موتيفا سيليان ومعه القائم بالأعمال سيد موسوي، والصحفي كاظم إخواني، والسائق تاجي رستيكار مقدم، كانوا قد فقدوا في الرابع من يوليو (تموز) عام 1982 خلال الغزو الإسرائيلي للبنان وهم في طريقهم من طرابلس في الشمال اللبناني إلى بيروت، وقيل لاحقا إن قوات الكتائب اللبنانية قد سلمتهم للقوات الإسرائيلية الغازية، وإنهم نقلوا إلى إسرائيل وبقوا يقبعون في سجونها منذ ذلك الحين وحتى الآن.

إن هذا هو هدف عملية الاختطاف التي نفذها حزب الله، والتي كانت نتيجتها توفير المبرر المنشود والمطلوب لتلك الحرب المدمرة التي خسر فيها اللبنانيون أكثر من ألف قتيل وبضعة آلاف من الجرحى، وإن هذا أيضا هو هدف اختطاف الجندي جلعاد شاليت في غزة الذي استدرج اختطافه ذلك العدوان الإسرائيلي الذي خلف نحو ألف وخمسمائة قتيل ونحو سبعة آلاف جريح، بالإضافة إلى كل هذا الدمار الذي حل بهذا القطاع الفلسطيني المنكوب.

إنه لا توجد أي حقيقة إلا هذه الحقيقة، فشبكة حزب الله في مصر التي ثبت أن إنشاءها قد بدأ قبل أكثر من أربعة أعوام، هي شبكة استخبارية إيرانية، وإن الهدف ليس إسناد غزة وتقديم الدعم «اللوجستي» لها، بل السعي لكسر الحلقة الرئيسية في السلسلة العربية لتحقيق تطلعات إيران في هذه المنطقة، وهذا هو هدف دعوة حسن نصر الله، خلال العدوان على غزة، للشعب المصري لإعلان العصيان المدني وللجيش المصري للقيام بانقلاب عسكري على نظام الرئيس حسني مبارك.

غير صحيحة حكاية «الدعم اللوجستي» إلى غزة، ولا يمكن أن يصدقها إلا أصحاب أنصاف العقول أو الذين عماهم الانحياز إلى إيران والالتزام بكل استحقاقاتها وتطلعاتها غير المشروعة في هذه المنطقة، ومَنَعهم من رؤية أي واقع أو الاعتراف بأي حقيقة، ولعل حتى أعمى البصر والبصيرة قد تأكد بعد كل هذه التجارب أن حزب الله ليس سوى أداة من الأدوات الإيرانية في هذه المنطقة، وكذلك «حماس» وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى، وأنه ينطبق على كل هذا التغني بـ«المقاومة» ذلك المثل القائل: «كلام حق يراد به باطل»، وذلك في حين أن أهم صور هذه المقاومة هي تثبيت الشعب الفلسطيني فوق أرضه في هذه المرحلة التاريخية الخطيرة، وهذا هو ما تفعله ما تسمى دول الاعتدال، وفي مقدمتها مصر والأردن والمملكة العربية السعودية.