تركيا ـ أوروبا.. غرام وانتقام

TT

أزمة انتخاب الأمين العام الجديد لحلف الأطلسي أندرس فوغ راسموسن التي تفجرت في ستراسبورغ بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، والتي نجح الرئيس الأميركي باراك أوباما في معالجتها وإيصال الجميع إلى النهاية السعيدة التي يريدها، يبدو أنها لن تنتهي عند هذا الحد. فقيادات الاتحاد الأوروبي، التي أغضبها كثيراً الموقف التركي من مرشحها الذي أجمعت عليه هي وحاولت فرضه على دول الحلف، لم تعد السيوف إلى أغمدتها وهي ما زالت تلوّح بها من البعيد استعداداً للانقضاض وتصفية الحسابات مع أنقرة التي تعرف هي الأخرى أن المنازلة بين «الإخوة الأعداء» لن تنتهي بهذه السهولة وأنه لا بد من جولات مواجهة أخرى على طريقة «غرام وانتقام» من المبكر جداً تحديد الخسائر والأضرار فيها.

تركيا، التي تنتظر منذ أكثر من نصف قرن حسم موضوع عضويتها في هذه المجموعة بعدما رأت في الغرب خياراً استراتيجياً أساسياً منذ عشرات العقود، تصر على حقها في أن تكون شريكاً في المشروع الأوروبي، رغم كل الأصوات المعارضة والمعرقلة والمهددة. لا، بل هي تردد في الآونة الأخيرة أن أسباب المماطلة والرفض لم يعد لها علاقة بالمعايير والمقاييس الأوروبية، بل هي أسباب دوافعها الرئيسية دينية عرقية سكانية يصر الاتحاد الأوربي على التعامل معها بجوانبها السلبية بدل أن يستفيد من خصوصياتها الإيجابية الكثيرة التي ستساعده على الخروج من أزماته السياسية والاجتماعية والثقافية التي تتزايد وتتشعب يوماً بعد الآخر وتتحول إلى بركان جاهز للانفجار.

السجال السياسي والدبلوماسي ـ الذي شهدناه مؤخراً على هامش قمة دول حلف الناتو، وحرب الكر والفر بين أنقرة وأكثر من عاصمة أوروبية، قادتها بروكسل باسم المجموعة الأوربية، وفرنسا وألمانيا باسم الدول المتصدية لمشاريع العودة الأميركية من خلال إدارة البيت الأبيض الجديدة، بعدما اضطرت للتراجع بسبب أخطاء بوش السياسية والاستراتيجية المميتة ـ قدم لنا ولو صورة موجزة حول ما ينتظرنا في القريب العاجل من تصفية حسابات لن تحسم بهذه السهولة. أوباما نفسه، الذي أحصى أمام الأوروبيين فوائد العضوية التركية في الاتحاد وضرورة «الاقتراب من المسلمين وفي مقدمتهم الأصدقاء والشركاء والجيران»، عاد وغيّر لغته أمام تصلب ساركوزي الذي قال «أنا على استعداد للعمل يداً بيد مع واشنطن، ولكن فيما يتعلق بالعضوية التركية فليسمح لنا أوباما أن نقول هنا إن القرار بهذا الشأن يعود إلى الدول الأعضاء في الاتحاد وحدها» ليرد هو بدوره هذه المرة «طبعاً نحن لسنا في الاتحاد لكن من حقنا أن نعبر عن رأينا».

كلما حاولت واشنطن «التوسط» في مسألة العضوية التركية، زاد حجم التصلب والتعنت الأوروبي. وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير، الذي قال إنه دائماً دعّم عضوية تركيا في الاتحاد، عاد وبدل رأيه بسبب المواقف التركية الأخيرة في ستراسبورغ «لا يعود إلى الأميركيين أن يقرروا من يدخل إلى الاتحاد الأوروبي.. نحن أسياد في دارنا». فهل تكون واشنطن تتعمد اتباع مثل هذه السياسة لعرقلة العضوية التركية وإبعادها عن غايتها الأساسية بدل المساعدة على فتح الطريق أمامها؟

تلويح أنقرة بحق النقض الذي تمتلكه بوجه راسموسن وتذكير القيادات التركية للأوروبيين «إننا الآن في الناتو ولسنا في بروكسل» قابله على الفور تصريحات ألمانية أوروبية مهددة «إن العضوية التركية في الاتحاد تتطلب أيضا الإجماع حيال طلبها هذا»، غامزة من قناة ما ينتظر تركيا في المستقبل من صعوبات وعوائق. لا بل إصرار أنقرة على انتزاع بعض المكاسب بعد مساومات طويلة مقابل تغيير موقفها من انتخاب رئيس وزراء الدنمارك أزعج الكثير من القيادات الأوروبية التي جددت طروحاتها القديمة أن أفضل ما ينقذ العلاقات التركية الأوروبية هو الشراكة بامتياز وليس العضوية الكاملة التي يبدو أنها غير ممكنة بسبب معارضة الكثير من دول الاتحاد.

أنقرة المنهمكة هذه الأيام في مناقشة الكثير من المشاكل الداخلية السياسية والأمنية والتي لم تستفق بعد من «غيبوبة» أوباما لم تسنح لها الفرصة على ما يبدو لمراجعة ملف علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي على ضوء قمة حلف الناتو الأخيرة والمشادة التي فشل رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني، صديق أردوغان الشخصي، في الحؤول دون وقوعها. وأكثر ما يقلق ليبراليي البلاد، الذين استبسلوا في السنوات الأخيرة للعمل على تقريب وجهات النظر بين تركيا والعواصم الأوروبية، أن تصل كل محاولاتهم إلى طريق مسدود وأن يكون كل هذا التجديف في الهواء، كما يقول المثل التركي، بعدما طالبت العواصم الأوروبية وسطاء الخير بأن يتركوها بسلام قبل أن يحدثوها عن السلام.

الجواب هو أولا وأخيراً عند أنقرة قبل غيرها، وخيارها سيكون دائماً أن لا تتراجع عن حملات الإصلاح والتغيير والانفتاح التي بدأتها في السنوات الأخيرة، فهي عندما تصل إلى مرتبة العضوية الكاملة في الاتحاد ستكون قد ربحت معركتها هذه حتى ولو استمرت بروكسل في عنادها وتصلبها.

* كاتب وأكاديمي تركي