قفا نبك من ذكرى نضال ومطلب..

TT

مناورات تشكيل اللوائح الانتخابية في لبنان، والإشكالات الشخصية والحزبية والمذهبية التي خلفتها، لا توحي بعودة الذهنية المصلحية الضيقة إلى أسلوب تعامل «الآذاريين» مع البرلمان المقبل فحسب، بل تؤشر إلى بداية نهاية الاصطفاف السياسي «المبدئي» القائم حاليا على نظرتين متباينتين لمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي.

العديد من التيارات السياسية في العالم يموت قبل أن يدفن رسميا (والمنظومة السوفياتية قد تكون أحدثها مثالا). ولكن أن يدفن تيار سياسي قبل أن يموت سريريا.. فظاهرة خص القدر لبنان بها دون غيره من دول العالم.

وإذا جاز البحث عن سبب رئيسي لهذه الظاهرة، فقد يكون أن السياسيين في بلاد الأنظمة الديمقراطية العاملة يتبعون «المبادئ» التي تنادي أحزابهم بها، فيما العكس صحيح في لبنان: الأحزاب تتبع السياسيين، كيفما مالوا تميل، ومهما قالوا تقول.. فلا عجب أن يتعامل سياسيو لبنان «من فوق» مع مبادئ أحزابهم ويعجلوا في دفن تيارها السياسي العام قبل أن يلفظ أنفاسه.

في لبنان، المهم أن يبقى السياسي «حيا» رافعا رأس طائفته ومحافظا على مواقعها في السلطة. وعليه، ما كان يلوح في أفق لبنان عام 2005 وكأنه بداية واعدة لثنائية سياسية تفرز أكثرية حاكمة وأقلية معارضة وتؤسس لنظام ديمقراطي يتعدى الاعتبارات المذهبية الضيقة والمواقع العائلية المغلفة بالحزبية «العقائدية» ليصطف وراء مواقف سياسية مبدئية.. انهار عند أول اختبار لجديته: تشكيل لوائح انتخابات عام 2009.

هذا الواقع ينسحب على الجميع: تيار «14 آذار» وتيار «8 آذار»، ففي نهاية المطاف كلاهما وجهان لعملة لبنانية واحدة.

قد تمر سنوات طوال قبل أن يلمس القيمون على النظام السياسي اللبناني عمق الضرر الذي ألحقته قوى «8 آذار» في ديمقراطيته الناشئة بفرضها، قسرا، معادلة «الثلث المعطل» على التركيبة الحكومية فخلطت الحابل بالنابل (دور المجلس النيابي ودور مجلس الوزراء ) وتسببت بتعطيل آلية القرار في مجلس الوزراء.

وكأن ذلك لا يكفي تشويها لأصول اللعبة الديمقراطية، أطلقت قوى «8 آذار» حملة تنظيرات «وطنية» تدعو إلى تحويل نظرية «الثلث المعطل» إلى «قاعدة» ثابتة من قواعد السلطة في لبنان، أي عمليا إلى إلغاء قاعدتي الأكثرية والأقلية الأساسيتين لأي نظام ديمقراطي.

عمليا، نظرية «الثلث المعطل» كانت ضربة المعول الأولى في صرح ديمقراطية العهد الاستقلالي الثاني في لبنان.. إلى أن تبعتها النزاعات الضيقة على «الحصص الحزبية»، داخل صفوف «8 آذار» و«14 آذار»، لتكمل عملية إحباط الثنائية السياسية الناشئة في لبنان، وبالتالي إعادة إحياء التجمعات الحزبية التقليدية، وربما العودة بالحياة البرلمانية في لبنان إلى عهود المحاصصة المذهبية ـ العائلية التي أوصلته إلى حرب أهلية عام 1975.

باختصار أصبحت اللعبة البرلمانية في لبنان حلقة مفرغة من أي بعد ديمقراطي يعتد به: الطوائف تنتخب، والأحزاب تسمي.. والتمثيل الشعبي يتراجع إلى حدوده الدنيا.

وإذا كان يصح تحميل التركيبة اللبنانية المذهبية والإثنية معظم مساوئ نظام «اللاتمثيل» الشعبي، فلا يجوز إعفاء الطبقة السياسية المنتفعة من هذا النظام من مسؤولية إبقاء القانون الانتخابي على علاته، فمنذ إقرار مبدأ المناصفة بموجب اتفاق الطائف لم تتجاوز التعديلات التي أدخلت على القانون الانتخابي عملية إعادة تقسيم الدوائر وفق مصالح القوى السياسية ـ الطائفية المؤثرة على الساحة الانتخابية. حتى خفض سن الاقتراع إلى الثمانية عشرة لم تستطع الطبقة المنتفعة من التقاطع المذهبي ـ السياسي في دوائر لبنان الانتخابية تحمل تأثيراته على «الأمر الواقع» الانتخابي عام 2009، فتهربت منه بأرجائه أربع سنوات أخرى.. فكيف لو كان المطلوب تصحيحا جذريا لهذا القانون كاعتماد النسبية مثلا؟

كيف ستكون صورة المجلس النيابي اللبناني بعد انتخابات يونيو (حزيران) المقبل؟

سؤال مفتوح على كل الاحتمالات.. ولكن نعي الثنائية السياسية القائمة حاليا (14 و8 آذار)، منذ الآن، قد لا يندرج في إطار الفرضية التحليلية بقدر ما يصب في خانة السبق الصحافي.