إيران وإسرائيل والمسائل الأخرى

TT

ما توقّع أحد أن يعود الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للاشتباك مع الإسرائيليين (واليهود) في مؤتمر جنيف (دوربان ـ 2) لمكافحة العنصرية، فقد سبق له أن فعل ذلك خلال أربع سنوات، وما كان ذلك مفيدا حتى على سبيل الدعاية والتأييد الشعبي. ثم إن الإيرانيين والأميركيين يستعدون لبدء التفاوض رسميا (بعد أن بدأوا ذلك بالفعل على مستويات مختلفة)، ولا يحتاجون إلى مشكلات غير ضرورية على مشارف التهدئة والمفاوضات. لكن ما لم يتوقعه أحد حصل بالفعل، ووقع مع حدوثه الحكم على الصحافية الأميركية الإيرانية الأصل روكسانا صابري بالسجن بتهمة التجسس!

بدأت الحملة على إسرائيل واليهود من جانب نجاد على الخصوص في حملته الانتخابية عام 2004/2005، لكنها كانت وقتها تشبه في وقعها وموضوعاتها حملات القوميين العرب واليساريين: الطبيعة الاستيطانية لإسرائيل، والتحالف الوثيق مع الاستعمار الغربي وعلى رأسه اليوم الولايات المتحدة، وحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه من الاستيطان والاستعمار، وحق الشعوب الإسلامية في أن تكون عندها قوة نووية (سلمية) من أجل التقدم والإفادة؛ وبخاصة أنه لا مبرر للنووي لدى إسرائيل غير زيادة تفوقها العسكري من أجل استمرار الاحتلال والاستيطان، وإرعاب أهل المنطقة. وإذا عرفنا أنه في عام 2005/2006 كان الاشتباك حول النووي الإيراني قد بدأ مع واشنطن وبدأت إسرائيل تتدخل فيه، فإن ذلك يصبح مفهوما ولجهتين: لجهة استقطاب مشاعر العرب والمسلمين ضد إسرائيل، ودعم النووي الإيراني الذي تحول (شأن باكستان النووية في الثمانينات من القرن الماضي) إلى «نووي إسلامي». ولجهة الإعداد للحملة الإيرانية المضادة بالمشرق للاشتباك مع إسرائيل باسم القضية الفلسطينية، ومع الولايات المتحدة بالعراق بعد تصاعد التبادل الكلامي الإعلامي بشأن النووي مع الولايات المتحدة، ومع الغرب الأوروبي، ومع الوكالة الدولية للطاقة النووية.

بيد أن ما حصل بعد عام 2006 وحتى اليوم تجاوز المسائل السياسية والاستراتيجية والتحررية إلى المسائل الثقافية والتاريخية والنفسية الأكثر حساسية وإزعاجا لليهود وللغربيين على حد سواء، فقد بدأ الرئيس نجاد تركيزه على مسألة «المحرقة» التي اصطنعها هتلر ليهود ألمانيا وأوروبا، وذهب ضحيتها ـ بحسب الرأي شبه المجتمع عليه ـ زهاء ستة ملايين يهودية ويهودي صغارا وكبارا وعجزة. والمعروف أن هذه القضية/المأساة صارت (بحقائقها وأساطيرها)، ومنذ الخمسينات من القرن العشرين، جزءا أساسيا في فهم الغرب العلماني والمسيحي لنفسه والعالم من حوله فهما نقديا، وجزءا من مطامح التغيير وإراداته للخروج من الفاشيات، وإقامة عالم أكثر عدالة وأمنا.

وبالنظر إلى الأبعاد «التحررية» لهذه المسألة، فقد كان من الطبيعي أن يقف على رأس دعاتها ليس اليمين الأوروبي والأميركي، بل الليبراليون واليساريون، الذين صعد نجمهم بعد هزيمة الفاشية والنازية، بالمشاركة القوية للاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، ثم قيام المعسكرين المعروفين، ونشوب الحرب الباردة، وسط إجماع لم يتزعزع من جانب أهل المعسكرين على «حق» يهود المحرقة في إقامة دولتهم أو «وطنهم القومي» على أرض فلسطين! وقد كان في ذلك ما فيه للشيوعيين واليساريين الجادين الذين لا يقيمون اعتبارات كبرى للمسائل الدينية (والقومية)، بل يفهمون الأمور في سياق حركة التحرر العالمية، التي تضع الكيان الإسرائيلي، والكيان العنصري في جنوب إفريقيا (وقتها) في سلة واحدة. وقد أفضى ذلك بقلة قليلة منهم إلى أمرين: مراجعة الأفكار والانطباعات بشأن المحرقة حدوثا وحجما، والترتيب على ذلك: السير في أيديولوجيا وممارسات إزالة الكيان الصهيوني. أما الكثرة الكاثرة من اليساريين فظلت تركز على الطبيعة الاستعمارية لإسرائيل، وتقول قبل عام 1967 بإقامة دولة ديمقراطية للعرب واليهود على أرض فلسطين، أو بحل الدولتين من خلال القرارات الدولية في إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة منذ عام 1967.

وقد حدثت حركة غريبة بعض الشيء في بيروت عام 2000/ 2001، كان لحزب الله ضلع صغير فيها، ترمي لإقامة مؤتمر ببيروت لمراجعة مسألة المحرقة (باتجاه إنكارها أو تصغير حجمها)، لكن الراحل إدوارد سعيد تصدى لها مع أصدقائه اليساريين وأحبطوها، ليعود المؤتمر نفسه فينعقد بطهران برئاسة نجاد في عام 2007، و«من أجل قراءة علمية للمحرقة المزعومة ووقائعها وحجمها الحقيقي»، ثم «من أجل إبطال حجج الصهاينة في الاستناد إليها في إقامة الكيان الغاصب على أرض فلسطين».

ليس بالوسع هنا، وفي السياق الذي ندرسه، أي الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وإسرائيل، أن ننصرف لتأمل حقائق المحرقة وأساطيرها، ولا أثرها في إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، فمهما كان الرئيس نجاد ورجال الدين السنّة والشيعة، مصدقين أفرادا وجماعات باستغلال اليهود للمحرقة التي لم تحصل، فإن ذلك لا يمكن أن يكون سببا تتأسس عليه سياسات الدولة الوطنية الإيرانية، وبخاصة أنه سبق لها في حقبة الجمهورية الإسلامية أن أظهرت براغماتية مشهودة بالتعامل مع إسرائيل أواسط الثمانينات ضد العراق، بل إن الأمر يعود في اعتقادي إلى أربعة أسباب:

أولا: إدراك النخبة الإيرانية الحاكمة أن الاعتراض الرئيسي على النووي عندهم آت من جانب إسرائيل التي تريد البقاء منفردة بالنووي في المنطقة، وهي تعمل منذ سنوات ومع الهند للخلاص من النووي الباكستاني. ولذا يرى الفريق الذي يتزعمه الرئيس نجاد في السلطة الإيرانية أنه لا بد من الاستمرار في الحملة على إسرائيل (حتى دون ذكر النووي لديها)، باعتبارها لا تملك الحق في الوجود، فكيف بالمطالبة بإزالة النووي الإيراني؟!

ثانيا: الاستمرار في الهجوم على الصهيونية (والغرب الذي أسس كيانها)، لكسب الرأي العام العربي والإسلامي، أو الاستمرار في كسبه وتحميسه، وبخاصة بعد النكستين في غزة، وفي العلاقة مع مصر (تنظيم حزب الله هناك)، إشعارا لذاك الرأي العام أنه لا بديل عن الجمهورية الإسلامية في مجال مواجهة إسرائيل، وسط تفاقم عدوانيتها من جهة، وتخاذل الجهات العربية من جهة ثانية.

ثالثا، وهو الأهم والأوقع: الاستمرار في سياسة الحروب البديلة، التي تحول دون حرب على طهران مباشرة. فقد كانت هناك حرب عام 2006، وحرب غزة أواخر عام 2008، وكلتاهما حربان بديلتان عن النزاع الإيراني/الأميركي، والإيراني/الغربي المباشر. ونحن نعلم أنه في الأسابيع الثلاثة الماضية انكشف بوضوح وجود تعاون بين إيران وأجزاء من «القاعدة» بالعراق واليمن والسعودية ومصر، وربما يكون هناك تعاون في مواطن أخرى، فقد طلبت الولايات المتحدة من إيران مثلا ألا تستمر في دعم «طالبان» بأفغانستان! فهذا التصعيد الآن ينذر بمحاولة حرب بديلة تبادر إليها إسرائيل (ذات الحكومة المنخفضة السقف، والتي لا حلول لديها للأزمتين، الاقتصادية والأمنية، بغير الحرب)، أو يبادر إليها أنصار إيران ضد إسرائيل، فيعود التركيز على النزاع الفلسطيني/الإسرائيلي، وليس على النووي الإيراني.

ورابعا وأخيرا: تثبيت الارتباط بين الملفات التي ترعاها إيران، وملف النزاع على فلسطين. فمن خلال حزب الله وحماس من جانب، واليمين الإسرائيلي الحاكم من جانب آخر، سيستمر النزاع وتستمر حالة اللا استقرار بالمنطقة لسنوات طويلة. وقد كانت سورية هي التي تتولى من قبل «استقطاب المجانين» ثم المساومة عليهم وبيعهم للولايات المتحدة أو لقوى إقليمية (تركيا وإسرائيل). أما اليوم فإن أوراق الاضطراب بالعراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان إنما تتجمع بالقبضة الإيرانية، وهي أوراق صالحة للاستخدام الآن، ومع الولايات المتحدة بالذات، في فترة «عصر الأصابع» والتشابك بها.

أما أن تريدوا إقناعنا بأن الحاسة التاريخية والأنثروبولوجية والأكاديمية والإسلامية، لدى رئيس الدولة الإيرانية محمود أحمدي نجاد، هي التي تدفعه إلى إنكار المحرقة، وإلى الإصرار على إزالة إسرائيل من الوجود، فهو بحسب أبي العلاء المعري: «هذا كلامٌ له خبيءٌ/ معناه ليست لنا عقولُ».