الدرس الجنوب إفريقي عربيا

TT

عندما ينشر هذا المقال سيكون في أغلب الظن جاكوب زوما قد انتخب رئيسا ثالثا لجنوب إفريقيا في مرحلة ما بعد نظام التمييز العنصري. الرجل كما هو معروف أحد الرموز التاريخية لنضال الحركة الزنجية الإفريقية ضد الأبارتيد, ورفيق سجن للزعيم الأسطوري نيلسون مانديلا طيلة عشر سنوات كاملة, كما أنه خطيب مفوه ومثقف عصامي كبير يتحدث ثماني لغات بطلاقة. وقد شفع له دوره الوطني البارز في تجنيبه السجن رغم 750 قضية رفعت ضده، تمحورت حول فتوحاته النسائية (على الرغم من أنه مسيحي فإن له 3 زوجات رسمية و18 ولدا من علاقات غير شرعية).

فما أبعد مسار رئيس جنوب إفريقيا المرتقب عن مسار سلفه تامبو مبكي المثقف الأرستقراطي الذي قضى أغلب سنوات نضاله في المهجر, ويتهم بأنه يعرف عن الغرب أكثر مما يعرفه عن بلاده.

لم يكن أحد يتوقع أن تخرج جنوب إفريقيا بسلاسة وسهولة من عهد التمييز العنصري، وأن تنجح في بناء ديمقراطية مستقرة وناجعة.

ولا شك أن للرئيس الأسود الأول للبلاد مانديلا دورا محوريا في هذا المكسب الكبير, بما أوتي من حكمة وتبصر ومكانة أخلاقية استثنائية. قاد مانديلا مفاوضات المرحلة الانتقالية مع الأقلية البيضاء وانتهى إلى التوصل معها إلى حل ناجع دون ثأر أو تصفية حساب, يعيد الحقوق كاملة للأغلبية دون إقصاء أو تمييز, وأبدع فكرة منتديات الحقيقة والإنصاف لدفن تركة الماضي الأليم دون تعريض البلاد للعنف والفتنة. ثم خرج العجوز المحبوب من قصر الحكم وهو في أوج صحته وعطائه وشعبيته، مقدما نموذجا فريدا للتناوب الإداري، سيترك من بعد أثره على التقليد الديمقراطي الجنوب إفريقي.

وبالسلاسة نفسها خرج خلفه تامبو مبكي مستقيلا عندما نزع حزبه الثقة منه واختار بديلا عنه نائبه الرئيس الجديد المنتخب, وكان بمقدوره البقاء في مركز الحكم والسعي لشراء الذمم وتوزيع مغانم السلطة للحفاظ على المقعد الأثير.

والواقع أن تجربة جنوب إفريقيا تستدعي الاستكناه عربيا للاعتبار والاحتذاء من وجهين أساسيين هما: تسوية الأزمات الداخلية، وتكريس خيار التناوب السلمي الديمقراطي على الحكم. والمعروف أن هذين الإشكالين هما أساس عقدة النظام السياسي العربي، فغني عن البيان أن جل الدول العربية تعرف احتقانا داخليا حادا وأحيانا تركات أليمة من انتهاك حقوق الإنسان والتصفيات الجماعية, كما أن مشكل التناوب الديمقراطي على السلطة مطروح فيها بحدة أقوى. وفي الحالتين يصلح النموذج الجنوب إفريقي أن يكون مثالا للاقتداء.

بخصوص الإشكال الأول: نجحت جنوب إفريقيا في إبداع آلية جديدة لتسوية إرث الانتهاكات والتصفيات خارج الإطار القضائي، وهو الدرس الذي استوعبه المغرب مؤخرا للتعامل مع تركة ملفات حقوق الإنسان, مما شكل نقطة تحول كبرى في تاريخ المغرب المعاصر. أما العراق بعد سقوط صدام حسين واحتلال البلاد فقد سلك مسلكا مغايرا, أراده على غرار محاكمات نرمبرغ، بيد أنه عمق الأحقاد الطائفية وعقلية الثأر والانتقام، وها هو اليوم يريد العودة إلى منطق المصالحة بعد استفحال الدمار وانتشار الحريق.

وبخصوص الإشكال الثاني: استطاعت جنوب إفريقيا تقديم نموذج فريد له خصوصياته المحلية، وإن كان يضمن ثوابت النظام الديمقراطي من حريات عامة وتعددية سياسية وانتخابات حرة. ومن خصوصيات هذا النموذج التي ضمنت في آن واحد الاستقرار والتناوب السلمي، وجود حزب مركزي يشكل قاعدة قوية للوحدة الوطنية (في مجتمع شديد التنوع العرقي والقبلي والديني)، ويتعلق الأمر هنا بحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي قاد المقاومة ضد التمييز العنصري، ولا يزال يهيمن منذ سنة 1994 على الأغلبية الساحقة من مقاعد البرلمان (70 بالمائة حاليا).

كما أن عملية التناوب السلمي على السلطة أخذت شكل التوريث المتدرج عن طريق الآلية الانتخابية التعددية، مما يفسر خلافة تامبو مبكي للزعيم مانديلا الذي كان نائبا له، ثم خلافة زوما لمبكي الذي كان نائبا أيضا له ومرشحا لشغل كرسيه بعده. وبطبيعة الأمر يختلف هذا النموذج جذريا عن نموذج الحزب الواحد أو «حزب الدولة» القائم في البلاد العربية, باعتبار أنه في العادة مجرد هيكل بيروقراطي زبوني للحكم الأحادي الانفرادي، ولا يعبر عن أي ديناميكية سياسية أو اجتماعية حقيقية.

فقد تكون الساحة السياسية العربية بحاجة إلى نمط من التناوب التوفيقي المتدرج، كما حدث إلى حد ما في المغرب عام 1998، وأعطى نتائج إيجابية لا غبار عليها. وإن كان من الجلي أن الأنظمة الملكية التي لا يطرح فيها مشكل شرعية الحكم أقدر على تحقيق مثل هذه النقلة المطلوبة.

يحتاج العرب إلى الاطلاع على تجربة جنوب إفريقيا لاستلهام العبر من نمط المقاومة الناجح الذي اتبعته لتفكيك النظام الاستيطاني العنصري الشبيه بالاستيطان الصهيوني في فلسطين, ولبناء تجربة ديمقراطية توافقية ومتدرجة قادرة على ضمان الاستقرار السياسي والتناوب السلمي على السلطة.