في الذهب والعسل

TT

عندما ذهبت إلى طهران في الستينات، نزلت في فندق صغير متواضع في بعض المدينة اسمه «الفردوسي». وفي اليوم التالي عرفت أن كل شيء في طهران هو «الفردوسي». إنه شاعر فارس كما كان هوميروس شاعر الإغريق. أمضى ثلاثين عاما في كتابات «الشاهنامة» من ستين ألف بيت. وفيما شكك المحققون في أن أكثر من شاعر ساهم في كتابة «الإلياذة»، أو قيل إن وليم شكسبير أكثر من فرد واحد، وإن راسين وكورنييه شاعري فرنسا، كانا واحدا، لم يتقدم أحد بأي شكوى إلى أي مخفر أدبي ضد الفردوسي.

وتتعذر قراءة الشاهنامة كاملة، ولو على مدى سنين، إلا لمن أُعطي صبرا كصبر شاعرها. لكن كلما عدت إلى مقتطفات منها، يخطر لي أن الفردوسي هو خليط من هيرودوتس والمسعودي والقزويني. شعرا. وأما الدقة التاريخية فليس لي أن أحكم، لكن شكوكا علمية كثيرة ثبتت في حق هيرودوتس، أول الصحافيين وأبو المؤرخين، أو في بعض عمله طبعا، كما في بعض أعمال المسعودي والقزويني. ولا يمكن أن يكون الجبرتي قد وقع في المبالغة، لأنه سلف صديقنا ورفيقنا أنور الجبرتي. فلا يجوز شك ولا تُقبل تهمة. من أجمل دراميات الشاهنامة وصف وفاة الإسكندر فيهما. سوف نعرف أن أهم ما في حياته وموته كان العسل. وقد كان قائد الزمان في بابل فجاءه في الليل حلم مُغِمّ فاكْتَرَب. فنادى المنجمين وروى ما تراءى في ليله فحزنوا، وتطيروا، واتفقوا على أن موته وشيك. فأمر الإسكندر كاتبه أن يأتي إليه، وراح يملي عليه رسالة إلى أمه، يعزيها بنفسه، ويأمرها بالصبر ويطلب أن يُدفَن في الإسكندرية.

ثم أمر القائد الشاب بأن يُصنع له تابوت من الذهب ويُملأ بالعسل ويكفن بالديباج والحرير. وطلب إلى والدته أن تفرق كل ما جمع من مال في الصين والهند على الفقراء، وألا تحتفظ إلا بما يكفي لقوتها. ولما خرج بعد ذلك، ورأى العسكر صفرته وشحوبه انتحبوا وبكوا.

ولما كُفّن، كما أوصى اختلفت الفرس والروم أين يُدفَن. فقالت الفرس يُدفَن حيث مات فقالت الروم بل حيث وُلد فقال شيخ من فارس بل في الإسكندرية التي بناها وجعل من عمرانها درة المدن ومنارة المتوسط. وكان أن نُقل تابوت الذهب إلى هناك فخرجت المدينة تستقبل بانيها في حوالي مائة ألف من الخلائق. وتَحدّث كثيرون في خطب الوداع، وقال أحدهم من فوق المنصة: ما زلتَ تدفن الذهب حتى دُفنتَ فيه. وقبل إنزال التابوت انحنت فوقه أمه وقالت، بالنص الفردوسي، ما أبعدك مني مع قربك، وما أعظم خطبك على صحبك.