عاشقة الحبر

TT

لا يستطيع أحد أن يحب بيروت أكثر من نزار قباني ومحمود درويش وأدونيس ومحمد الماغوط وعلي أمين ومصطفى أمين وبدر شاكر السياب. لا أعرف عدد الأدباء العرب الذين استوطنوها أو اعتلوا منابرها، من طه حسين إلى معروف الرصافي إلى أحمد شوقي. وفي شبابنا كنا إذا ذهبنا إلى مقهى فقير على البحر أو مقهى فيه عطر على ناصية الحمراء والروشة، نتوقع سلفاً أن يكون قد سبقنا إلى هناك أحمد الصافي النجفي أو محمد عبد الوهاب.

ولا أدري كم هو عدد الكتَّاب والرسامين الفرنسيين والبريطانيين الذين جاءوا إليها وكتبوا عنها وحفروا لها صورة تفوق حجمها بكثير في ذاكرة الغربيين. كانوا كثيرين. وكانت لهم أشهر الأسماء في تاريخ الآداب الفرنسية. وإذ أعلنت بيروت عاصمة عالمية للكتاب لهذا العام تذكرت كم هي أخاذة وملونة وعريقة علاقة هذه المدينة بالكتاب، وتمنيت لو أنها لم تفعل شيئاً آخر سوى حضانة الحبر والورق. تذكرت المطابع الصغيرة في كل زقاق من بيروت ومقاهي ساحة البرج التي كانت مثل شرفة يطل منها كبار الشعراء والكتّاب على عالمهم اليومي، وتذكرت عالم الكتب على الأرصفة، والمكتبات في كل زاوية إلى جانب الدكاكين والبقالات، وتذكرت يوم كنت ترى في زحمة الترام أديباً أو شاعراً أو روائياً عائداً إلى منزله محدودباً لكثرة ما حمل معه في هذا الترام من كتب.

وتذكرت أن في هذه المدينة الصغيرة، المليئة برائحة البحر والعمل والعطور والأحلام، قامت أهم معارك الشعر العربي في القرن العشرين: سهيل إدريس، على المعرض، يتزعم فريق الكلاسيكية والعروبة والتراث من «دار الآداب»، ويوسف الخال، في شارع فينيسيا الحديث، يتزعم دعاوى الحداثة والانتقال من أبي تمام وابن أبي ربيعة، إلى تي. إس. إيليوت وعزرا باوند وسان جون بيرس، من دار «شعر» ومعه أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ وعصام محفوظ ومحمد الماغوط وبدر شاكر السياب. وأتذكر في هذه المدينة الصغيرة يوم حكت المدينة أن شابة تدعى ليلى بعلبكي وضعت كتاباً يحمل راية أو عنواناً هو «أنا أحيا». غريبة علاقة هذه المدينة بالكتاب والمكتبات والكتَّاب والورق. كنت تفيق على كتاب وتنام على كتاب. مع أنها كانت مدينة بسيطة بلا مداخيل وبلا ثروات. لكن هذه المحتالة الصغيرة ادعت لنفسها أنها مطبعة العرب. وعلى أرصفتها كان يعرض البائعون، بأسعار مضحكة، قناطير من حضارة العرب وثقافات العالم. ومن مكتب صغير مقابل سينما الأمير كانت تصدر إلى تونس والجزائر والمغرب والعراق والأقربين، أجمل منتجات التراث. كم تستحق هذه المدينة لقب هذا العام.