الخوف من الإسلام: دوافع ومفاهيم غير عقلانية

TT

«إن موجة التخويف من الإسلام ترقى إلى مرتبة المناهضة العنصرية لهذا الدين».. هذه كلمة قالها بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة في مؤتمر مكافحة العنصرية الذي انعقد في سويسرا منذ أيام.. ولقد قال مثلها ـ من قبل ـ سلفه كوفي عنان على منبر الأمم المتحدة في نيويورك.. ولئن انتُقدت ظاهرة الخوف من الإسلام، أو التخويف منه على ألسنة ممثلي أمم العالم كله، فمعنى ذلك: أن الظاهرة حقيقية غير وهمية، وعالمية غير محصورة في نطاق ضيق، وظالمة غير عادلة، ومرفوضة غير متقبلة.

وحقيقة الأمر: أن (التخويف من الإسلام) صناعة اصطنعها أقوام عمدوا لصد الناس عن الإسلام، أو اللغو في حقائقه وقيمه وشعائره وشرائعه، بهدف خدمة أجندات معروفة: سياسية وإيدلوجية وعنصرية.. نعم. هي صناعة مصطنعة، وإلا لو تُرك الناس وشأنهم، لو تركوا لفطرهم وضمائرهم وعقولهم المستقلة، لو تركوا وشأنهم ـ دون تحريض أو تعبئة ضد الإسلام ـ لما خافوا منه قط.

ولماذا يخاف الناس من الإسلام؟.. إذ ليس هناك أسباب عقلانية موضوعية منطقية تحملهم على الخوف منه.

ومن المنهجية الموضوعية ـ في التفكير والترتيب ـ: صياغة مفردات القضية في صيغ أسئلة: تخاطب العقل والوعي والضمير ورصيد المعرفة الصحيحة لدى الناس:

1 ـ لماذا يخاف الناس ـ في العالم ـ من الإسلام؟.. أيخافونه لأنه يصادر أو يلغي (الأداة) أو المفتاح الرئيسي للمعرفة وهو (العقل)؟.. إن هذا الخوف غير قائم البتة، لأن الإسلام جعل العقل مناط خطابه، ومحور فهمه والعلم به، وركيزة الاقتناع الحر به، ولا سيما في (أصوله الكبرى) وهي: الإيمان بالله.. وبالرسالة والرسول (وسنعتمد في الاستدلال على نص الوحي الأعلى لئلا يقال: إن الحجة مجرد كلام من عندياتنا لتسويغ أو تسويق القضية أو الموضوع)، فمن الأدلة القرآنية على أن العقل هو (أداة) أو مفتاح الإيمان بالله وبالرسالة والرسول:

أ ـ دليل استحضار العقل وإعماله في قضية الإيمان بالله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).. فوجود الله يتجلى، وتوحيده يسطع من خلال هذه الآيات الكونية التي ينبغي أن (يعقلها) عقل الإنسان لكي يؤمن بالله.

ب ـ دليل استحضار العقل وإعماله في تلقي القرآن: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).. لعلكم تستحضرون عقولكم وتفتحونها لتلقي القرآن وتدبره وفهم معانيه ومفاهيمه.. وهذه الآية معززة بمنظومة من الآيات الأخرى التي تؤكد مضمونها.. ومن هذه الآيات ـ مثلا ـ: آية: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).. وآية: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).. وكأن هاتين الآيتين تقولان: إن القرآن نزل ـ فحسب ـ للذين يتفكرون في آياته وهم ـ بالتحديد ـ أولو الألباب، أي أولو العقول الكبيرة الذكية التي تفهم (اللب) ولا تكتفي أو تتعلق بالقشور.

ج ـ دليل استحضار العقل وإعماله في إثبات أن الوحي من عند الله ـ لا من عند محمد ـ: (قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ).

ومما يندغم في هذه القضية: نقض وذم (تعطيل العقل).. وهو نقض وذم تضافرت آيات كثيرات على توكيده وتجليته.. ومن ذلك قول الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ).. وقوله سبحانه: (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ).. وقوله تباركت أسماؤه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ).

2 ـ لماذا يخاف الناس من الإسلام؟.. أيخافونه لأنه ينشر (العنصرية) ويؤصلها بين الناس.. هذا سؤال من (الأضداد) أي ضد طبيعة الإسلام ومقاصده. فمن أول مقاصد الإسلام (محو) العنصرية أو القضاء عليها بنصوص قطعية: نص أن البشر جميعا آتون من أصل واحد هو آدم الذي خلق من تراب: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ).. ونص أن اختلاف الألسنة والألوان برهان على وجود الله وإبداعه، لا دليل على التفرقة العنصرية بين الناس: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ).. ونص أن المرجعية الأولى للعنصرية باطلة، حيث إنها مرجعية إبليسية، فإبليس اللعين هو أول من قال بالعنصرية الجينية أو البيولوجية أو الفيزيائية: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).

3 ـ لماذا يخاف الناس من الإسلام؟.. أيخافونه لأنه دين يدعو إلى قطع جسور التواصل، وقنوات الحوار والتفاهم بين البشر؟.. حقيقة الإسلام عكس ذلك بالضبط.. حقيقة الإسلام أن البشر كلهم (أسرة واحدة) ينبغي أن تتراحم فيما بينها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).. ومن مفاهيم هذه الآية: «إن (الرحم الإنساني) العام يجب أن يوصل».. وحقيقة الإسلام هي ـ كذلك ـ (الانفتاح الإنساني العام) على البشر كافة: ابتغاء التعارف والتفاهم والتعامل والتعاون: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

4 ـ لماذا يخاف الناس من الإسلام؟.. أيخافونه لأنه يدعو إلى الاستبداد والتجبر والطغيان؟.. ليطمئن الناس إذن طمأنينة عميقة واعدة مكينة، ذلك أن الإسلام هو المنهج الأشد وضوحا وصراحة في نقض الاستبداد والتجبر والطغيان، ليس من الناحية السياسية فحسب، بل لأنه يَعُد هذه الجرائم مناقضة لجوهر الدين الحق وهو: توحيد الله عز وجل. فما من مستبد متجبر، ما من طاغية إلا وفيه نزعة ما إلى ادعاء الألوهية أو شيء من الألوهية.. وفرعون هو الرمز الصارخ على ذلك إذ لا يزال يستبد ويطغى حتى قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)!!.. من هنا نجد في القرآن (منهجا متكاملا) لنقض التجبر والطغيان وإبطالهما.. من هذا المنهج: (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).. (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).. ومن هذا المنهج المصير الكالح البائس للطغاة: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ).. ثم إن المنهج أدان ـ بوضوح وحسم ـ أولئك الذين أدمنوا اتباع الطغاة المستبدين الجبابرة: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).. فالمنهج لم يجرّم الاستبداد والطغيان فحسب، بل جرم ـ كذلك ـ الذين قبلوه قبولا أدى إلى إدمانهم له، إذ جعلوا أعناقهم فريسة دائمة لأغلال (كل جبار عنيد).

5 ـ لماذا يخاف الناس من الإسلام؟.. أيخافونه لأنه يحرم عليهم متع الحياة وزينتها وجمالها؟.. هذا ـ كذلك ـ خوف وهمي: (محض وهمي)، لأن الإسلام منهج شدد النكير على الذين يحرمون زينة الله التي أخرجها لعباده: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ).. من هذا العُتلّ المتنطع الذي يجرؤ على تحريم ما أحل الله لعباده من (زينة) وطيبات.. والعباد ـ هاهنا ـ تنتظم الناس كافة: بلا استثناء، إذ الآية الأخرى تقول: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا).. فـ(الحظر) مرفوع ـ بإطلاق ـ عن عطاء الله للناس أجمعين: مؤمنين بالله، وغير مؤمنين به، لأن هذا العطاء الفياض الدائم متعلق بصفات الربوبية، وهو سبحانه (رب الناس) كلهم، لا رب فريق منهم، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.. ولو تعلق العطاء الرباني بـ(الإيمان به) لهلك غير المؤمنين ـ في كل العصور ـ من الجوع والحرمان.. والواقع التاريخي ـ والراهن ـ ينطق بغير ذلك، مما يبرهن على أن الإسلام يقرر أن عطاء الله ممنوح مبذول للبشرية كلها، وهذا تقرير يطمئن كل إنسان فوق هذا الكوكب بأن الإسلام قد كفل حق الحياة ومتعها ومباهجها لكل أحد، فلا خوف ـ من ثم ـ من الإسلام، ولا جزع، ولا تطير.

وقد يقال: إن الناس لا يخافون من الإسلام، وإنما يخافون من (المسلمين).. ومع أن القضية المطروحة هي (التخويف من الإسلام نفسه).. ومع أن هذا القول يقع في الخلط بين المنهج العلمي الصحيح وبين تطبيقاته الخاطئة.. ومع أن في سلوك كثير من المسلمين ما يخيف..مع ذلك كله: تعالوا لنتحاكم جميعا (مسلمين وغير مسلمين) إلى المنهج الذي تبينت خصائصه آنفا.. نتحاكم إليه: بمنطق العقل المجرد أو بمقياس الديانة والثقافة والحضارة، فنحكم ـ من خلال ذلك ـ على كل مخالف له بالخطأ والظلم، سواء كان المخطئ الظالم مسلما أو غير مسلم.