الميزانية البريطانية والعرب

TT

يوم الأربعاء الماضي كان الأهم في الأجندة البريطانية، للصحفيين والساسة، حكاما ومحكومين، دائنين ومستدينين، مستثمرين ومستهلكين. السبب أنه يوم إعلان الميزانية السنوية التي يقدمها وزير المالية لمجلس العموم لمناقشتها، في الثانية عشرة والنصف ظهرا، فور انتهاء الاستجواب الأسبوعي لرئيس الحكومة؛ وأغلبية الحكومة ستضمن قبولها.

والميزانية هي الأسوأ في تاريخ البلاد. فإعلان وزير المالية اليستر دارلينغ انكماش الناتج القومي بمعدل 1.6% تحت الصفر في السنة المالية المنتهية 5 أبريل الجاري يعتبر اعترافا ضمنيا بفشل توقعاته بنمو 2% في أكتوبر الماضي.

تقدير وزير المالية انكماش الاقتصاد بمعدل 3.5% في العاميين الماليين المقبلين كان صفعة قوية للشعب؛ وخبرا سيئا للمستثمرين العرب على وجه الخصوص. فأغلب استثمارات القطاعات الوسطى منهم وليس كبار الأثرياء في العقارات، وهي أكثر القطاعات تضررا من الأزمة المالية العالمية.

أما مديونية الحكومة فتبلغ 175 مليار جنيه إسترليني (254 مليار دولار) ويتوقع دارلينغ أن تبلغ المديونية القومية للبلاد 1.4 تريليون أي ألف ألف مليون جنيه إسترليني (تريليوني دولار) بعد أربع سنوات.

الأمر الآخر الذي يهم المستثمر العربي أن الحكومة العمالية لجأت إلى الأسلوب القديم في إدخال الصراع الطبقي في إدارة الاقتصاد. والثقافة الطبقية لا تزال تسيطر على اللاشعور البريطاني، خاصة بين أبناء الطبقة الوسطى. ولذا قرر وزير المالية مهاجمة الشرائح العليا منها (وصورته الديلي ميرور العمالية في ملابس روبين هود، سارق الأغنياء لصالح الفقراء في الفلكلور الإنجليزي) في شريحة جديدة من 50% من ضرائب من يزيد دخلهم (العام وليس الصافي) السنوي من جميع المصادر على 150 ألف جنيه (217 ألف دولار) وإلغاء جميع الإعفاءات الضريبية للشريحة كإعفاء المبلغ المستقطع للادخار في المعاش أو مصاريف مدارس أطفالهم.

وحكومة العمال عادت إلى سياسة استخدام الضرائب كسلاح في الصراع الطبقي، بتحليل سياسي خبيث النوايا. فمع انخفاض مستوى المعيشة، سيزيد عدد متلقي إعانات وهبات الدولة والمعتمدين على خدماتها، وتزداد البطالة، أي تزداد مساحة بركة الناخبين الذين يصوتون للعمال أملا في المزيد من الهبات والعطايا والخدمات المجانية من حكومة عمالية قادمة.

تأثير هذا على العرب والمستثمر العربي كبير جدا. فغالبية المستثمرين العرب من الطبقات الوسطى يزيد دخلهم على هذا المبلغ، لكنه في شكل عوائد الأسهم والاستثمار من الشركات الخاصة التي يكونها وهم أعضاء مجلس الإدارة، بينما يتحدد مرتبهم بمبلغ أقل كثير، وهذا مشروع في لائحة مصلحة الضرائب. لكن العبارة السحرية في ميزانية وزير المالية دارلينغ هي «دخلهم السنوي من جميع المصادر». هؤلاء المستثمرون العرب سيتلقون صدمة استقطاع ما بين ثلث إلى نصف الدخل فجأة من الضرائب، أي ضعفي ما دفعوه في العام الماضي.

التأثير الآخر، والأكثر ضررا والأوسع انتشارا أن الغالبية الساحقة من العرب يستثمرون في العقارات، وبالتحديد في الأحياء الراقية من لندن خاصة وسطها. معظم مستأجري هذه العقارات، إما من مستثمرين عالمين في شكل مكاتب، أو الشرائح العليا من الطبقة الوسطى. وهي إيجارات في شكل مكاتب لرجال الأعمال والشركات، أو خدمات، أو مساكن. وبعضها في وسط لندن للبنوك والشركات العالمية لضيافة مدرائها من خارج بريطانيا عند قدومهم لإجراء لقاءات أو اجتماعات دورية؛ أو لسكنهم أثناء مدة التعاقد بين عام أو ثلاثة. مع إفلاس كثير من الشركات وتحديد تحرك مجموعة المدراء لتقليل النفقات في العام الماضي، أصبح قرابة ربع هذه العقارات فارغة بلا مستأجر، أو اضطر أصحابها إلى تخفيض الإيجارات إلى حد الخسائر أحيانا عندما يقل الإيجار عن نسبة الفوائد على قرض العقار.

ميزانية الأربعاء، وفرض العقوبات الضرائبية على ما يزيد دخلهم على 150 ألف جنيه، سيؤدي إلى «طفشان» عشرات الآلاف من رجال الأعمال والمستثمرين، بريطانيين وغير بريطانيين من لندن، واللجوء إلى أماكن أكثر ترحيبا ودفئا من ناحية اللوائح المالية والضرائبية من لندن، كإمارة موناكو، وليخنشتين وغيرها. وهذا بدوره سيؤدي إلى موجة أخرى من إخلاء العقارات الاستثمارية التي يملكها أو يديرها العرب.

ولذا فان يوم إعلان الميزانية البريطانية يعتبر ربما أكبر خبر بريطاني يهم العرب خاصة إذا كان سيؤدي إلى إفلاس أو خسارة بين مئات الاستثمارات التي توظف الآلاف من العرب في بريطانيا وخارجها، وبعضهم يرسل من عائد استثماره لتشغيله في أسواق البلدان العربية.

الغريب أنني نظرت حولي يوم الأربعاء في منصة الصحفيين في مجلس العموم طوال ساعة إلقاء وزير المالية لخطابه، والساعة التي تلتها في المناقشات، فلم أجد صحفيا عربيا واحدا أو ممثلا لوسيلة إعلام عربية.

وتكرر الأمر في كل من حوار الأربعين دقيقة الذي دعا إليه جورج اوزبورن وزير مالية حكومة الظل عند المحافظين؛ ونقاش الساعتين للجنتي الخزانة والمالية العامة، فلم يحضر في أي منها صحفي عربي واحد. وبالمقابل حضر خمسة من الصحفيين العرب ندوة في الخامسة والنصف بتوقيت غرينيتش، دعت إليها النائبة العمالية اليسارية كلير شورت لإجراء حوار عبر وصلة تلفزيونية بالانترنت مع الزعيم السياسي لحماس، خالد مشعل من مقره في دمشق (لم يتم التوصيل بمشعل، وإنما عثر عليه مشغل الكومبيوتر يجري لقاء مع الجزيرة في الوقت نفسه!).

الملاحظ أن الغالبية الساحقة من الصحفيين العرب لا تزال تفضل الخبر السياسي (وهو عندهم فلسطين وإسرائيل، يليها لبنان وصراعات أحزابه وحزب الله، ثم مهاجمة الغرب بالنسبة لأفغانستان والعراق، ثم إيران) ولا يهتمون، بالتفاصيل الدقيقة للأخبار المالية والاقتصادية، وهي الهم الأول للأغلبية الساحقة من المستهلكين لسلعة الإعلام.

طبعا كبار رجال الأعمال والمستثمرين في القاهرة أو الكويت أو الرياض، يهمهم الأمران وسيقرأونها بأنفسهم في «الفينناشيال تايمز»، و«الديلي تلغراف»، و«الايكونوميست» و«بلومبيرغ» ؛ لتأثيرها المباشر وغير المباشر على استثماراتهم وتجارتهم. ومن الناحية الظاهرية، لا تهم الميزانية البريطانية القارئ العادي على مقاهي أو في أندية هذه العواصم وغيرها في الخليج؛ رغم تأثيرها الكبير، وإن كان غير مباشر عليه. السبب طبعا أنه لم يتعود من وسائل إعلامه العربية أن تثير اهتمامه بالربط بين الميزانية البريطانية وتأثيرها غير المباشر على الأسعار في سلعه الاستهلاكية، أو في عوائد استثماراته وادخاره أو أحيانا في رزقه.

ودون أن تتطور وسائل الإعلام العربية، سواء مراسلوها في لندن (عاصمة العرب) أو غيرها من العواصم المالية الكبرى، أو محرري الديسك الخارجي وديسك الاقتصاد والمال، لتكون بمثابة معمل التكرير الذي يفكك الخبر المالي من لندن أو وول ستريت، إلى مشتقاته الأولية من سياسة ومال واقتصاد ودبلوماسية وأبعاد اجتماعية، سيظل المستهلك الإعلامي العربي جاهلا بعوامل لها تأثير كبير على مستوى معيشته.