الإرهاب ظاهرة ثقافية أولا

TT

اعتقال خلايا القاعدة الأخيرة في السعودية، وقبل ذلك تلك الأعداد المهولة من المعتقلين في العام الماضي من الناشطين والنائمين من الأفراد والخلايا، حيث وردت الأنباء آنذاك باعتقال أكثر من خمسمائة من أفراد القاعدة دفعة واحدة، وأكثر من سبعمائة منذ أوائل السنة الهجرية الماضية، لمتهمين بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، يخططون لنشر الفوضى في العالم كله، عن طريق ضرب اقتصاد هذا العالم، من خلال استهداف المنشآت النفطية السعودية، واغتيال شخصيات أمنية وغير أمنية، في الوقت الذي كنا نعتقد فيه أن تنظيم القاعدة في السعودية قد انتهى تقريبا، ولم يبق منه إلا فلول، حتى جاءت الأنباء بما لا يسر خاطرا، ولا يبهج نفسا، فكان لا بد من إعادة النظر.

استنتاجات ثلاثة يمكن أن نخرج بها من مثل هذه الأنباء، بعضها إيجابي، وأكثرها سلبي.

الاستنتاج الأول: هو أن المعركة مع الإرهاب ما زالت مستمرة، وأن الجهود الأمنية في مطاردة الإرهاب والإرهابيين، وفي السعودية خاصة، ناجحة إلى حد كبير، وليس أدل على ذلك من هذا العدد الكبير للمعتقلين من المنتمين إلى القاعدة، واكتشاف الخلايا حتى قبل أن تبدأ نشاطها، وهو جهد يجب أن يشاد به حقيقة، إذ لولا يقظة الأمن السعودي في هذا المجال، وكفاءته في تعقب أعداء الحياة، لكان الوضع غير الوضع.

الاستنتاج الثاني: هو أن القاعدة ما زالت قوية ونشطة، وأكبر دليل على ذلك هو هذه الاستمرارية في الوجود رغم كل الجهود، وليس خفوت الصوت وقلة العمليات في الآونة الأخيرة إلا نوعا من الكمون والتربص (كما يتربص فيروس الطاعون)، وإعادة الحسابات، وتغيير التكتيكات، ولا أقول الإستراتيجيات، وذلك مثل حرباء تغير جلدها مع تغير ظروفها، وتقبع ساكنة بانتظار فريستها. قوة ونشاط القاعدة، رغم البيات النسبي الأخير الذي اخترقته المباحث السعودية، يدفع لطرح ذاك السؤال المؤرق والمحرق في الوقت ذاته: لماذا ما زالت القاعدة قوية وذات جاذبية لأعداد كبيرة من شبابنا؟، ولماذا تلقى من الأتباع والمريدين الشيء الكثير، رغم كل جهود مكافحتها على مختلف الأصعدة؟ إجابة مثل هذا السؤال تختلف باختلاف ظرف المكان وظرف الزمان، فليس هناك عامل واحد يمكن أن يفسر لنا بقاء القاعدة وفكرها ناشطة وقوية رغم كل جهود المكافحة. وربما أن ظرفي الزمان والمكان ليسا هما الوحيدين اللذين يفسران استمرارية القاعدة، بقدر ما إن جزءا كبيرا من الجواب يكمن في طبيعة جهود المكافحة، التي في أحيان كثيرة تعالج النتيجة، وهذا أمر مطلوب لا شك في ذلك، ولكنها لا تتعامل مباشرة مع السبب، فقوة القاعدة في النهاية لا تكمن في ذاتها، بقدر ما تكمن في تلك البيئة التي تساعدها على اكتساب المؤيدين، وتجنيد الأتباع بالتالي. فرغم كل الجهود الأمنية في مكافحة القاعدة وخلاياها النشطة والنائمة، إلا أن تلك الجهود، رغم تقديرها حق قدرها الذي تستحقه، لم تفلح في اجتثاث جذور القاعدة، وأكبر دليل على ذلك هو حملة الاختراقات الأخيرة لخلايا على أهبة الاستعداد، لأفراد من السعوديين، رغم جهود المكافحة الأمنية، ولجان المناصحة، وفتح باب العفو والعودة، ووصفهم بالضالين لا بالمجرمين، وغير ذلك من فرص أعطيت لهؤلاء، ورغم ذلك تأتينا الأنباء باستمرار جودهم الكثيف، واستمرار نشاطهم. لماذا كان ذلك؟

الاستنتاج الثالث والأهم: استمرار القاعدة وقوتها تكمن في استمرار الظروف التي تعمل من خلالها، التي توفر لها البيئة المناسبة للحياة والحيوية، بمثل ما أن انتشار الوباء ليس لقوة في الوباء وفيروساته، بقدر ما هو في توفر تلك البيئة التي توفر لتلك الفيروسات الحيوية والانتعاش والتكاثر. محاربة الوباء بمجرد القضاء على الفيروسات، دون القضاء على مصدر تلك الفيروسات مثلا، لن يؤدي إلى القضاء على الوباء، طالما بقي المصدر سليما، وذات الشيء يمكن أن يقال عن القاعدة واستمراريتها. ففي السعودية، مثلا، الأجهزة الأمنية قامت بدورها الكامل، من متابعة وكشف واعتقال، ولكن ذلك لا يعني كل شيء، إذا اقتصر الأمر على مجرد الحل الأمني البحت، إذ لا يلبث آخرون أن يقتحموا الميدان، بمثل ما تعود النباتات الطفيلية إلى الظهور بعد جزها، طالما بقيت الجذور سليمة. الجذور هنا، وفي أي مجتمع حقيقة، هي مؤسسات التنشئة الاجتماعية، من منزل ومدرسة ومسجد وأندية ووسائل إعلام وغيرها، على اختلاف الأمكنة والأزمنة والبلدان، تشكل شخصية الفرد بشكل عام منذ الطفولة، فتجعله يسير في هذا الاتجاه أو ذاك، أو تهيئته على الأقل لأن يكون قابلا للسير في هذا الاتجاه أو ذاك. هذه المؤسسات هي التي تبذر البذرة الأولى، أو تزرع الخلية الأولى، التي تشكل نواة الفكر والسلوك بعد ذلك، وذلك وفقا للمثل الشعبي: «العود على أول ركزة». قد يكون هنالك شذوذ لمثل هذا القول، ولكن الشذوذ لا يقاس عليه، ولكل قاعدة شواذ.

النجاح الأمني في مكافحة الإرهاب وقوى الدمار، لم يرافقه نجاح ملحوظ في مكافحة الفكر الذي يشكل البنية الذهنية للسلوك التدميري، وإلا فما معنى هذه المئات من مجندي القاعدة، الذين لا يشكلون إلا رأس جبل جليدي عائم، ناهيك عن الأتباع والمتعاطفين بصمت، رغم كل الإنجازات الأمنية؟ هناك خلل ما، لا شك في ذلك، ويكمن هذا الخلل في العطب الذي أصاب مؤسسات التنشئة منذ أن خرجنا عن الطريق السوي، اجتماعيا وثقافيا على الأقل، ودخلنا في متاهة الفكر «الصحوي» في أواخر سبعينيات القرن الميلادي الماضي، وأوائل القرن الهجري الحالي، وتحولت مؤسسات التنشئة، ولا استثني مؤسسة هنا، إلى تجسد لهذا الفكر، تجسد كلي أحيانا، وجزئي أحيانا أخرى، وهو الفكر الذي يقوم في جوهره على ثقافة الموت والدم وتصفية الكافر، الذي هو في النهاية كل من لا يقر بهذا الفكر فكرا أوحدا لا شريك له، لا فرق في ذلك بين داخل وخارج. كل مؤسسات التنشئة، شكلوها وفق هواهم، في ظل صراع إيديولوجي محموم مع الثورة الإيرانية التي كانت تحاول تصدير مفهوم مختلف للإسلام، وفي ظل صراع سياسي مع قوة عظمى تحتل أفغانستان وتحاول الوصول إلى مياه الخليج الدافئة، جعل الدولة تغض الطرف عما كان يحدث في مؤسسات التنشئة، بل وتشجعه في أحيان كثيرة لأغراض سياسية شملت الجميع آنذاك، وها نحن اليوم نجني شوكا زرعناه بأيدينا ذات يوم.

ربما كان للظروف أحكامها آنذاك، وللعبة السياسة قواعدها وأوراقها، وكان لا بد مما ليس منه بد، وليس عيبا الوقوع في الأخطاء، فالحياة برمتها عبارة عن تجربة وخطأ، ولكن العيب هو في إنكار الخطأ، والاستمرار في ذات الخطأ، وفي حالة الدول، من الخطأ الاستمرار في سياسة ربما كانت ناجعة ذات يوم، ولكنها كارثة فيما لو استمرت مع اختلاف الظروف، فالعاقل في النهاية ليس فقط هو من اتعظ بغيره، ولكن العاقل أيضا هو من اتعظ بنفسه في تاريخها وتجاربها، فلا ينكر إلا معاند أن هنالك بعض الجهود لاسترداد هذه المؤسسات من خاطفيها في لحظة غفل عنها الزمن، ولكن هذه الجهود ما زالت في حدود أضعف الإيمان، تتعامل مع ظاهر جبل الجليد، فتحاول أن تذيبه، ولكنها لا تحاول التعمق أبعد من ذلك، فتهشم جبل الجليد بأكمله، وهنا تكمن المشكلة. فالمدارس والمناهج ما زالت تبث فكر التطرف، رغم تلك الجهود للحد من تأثيره، التي يقضي على فاعليتها النسبية كادر تعليمي يؤسلم الكيمياء والطب، ويصنف البشر، ويبشر بالبغضاء، ويدعو إلى ثقافة القبور، والبحث عما في الصدور. فبعض المساجد ما زالت تبشر بخطاب الموت والقتل والدمار، ودك الأرض من تحت أقدامهم، في الوقت الذي نحن فيه بحاجة إلى خطاب جديد يبشر بالتسامح والحوار بين بني آدم، لأنهم بني آدم وحسب. خطاب يمجد الحياة لأنها منحة الرب المقدسة، ويقدس الإنسان لأنه إنسان صنعته يد الرب، لا فرق في ذلك بين إنسان وإنسان. سيقول قائل هنا: وهل المراد من أجل أن يتحقق ذلك الانسلاخ من ثقافتنا وديننا؟ والجواب هو لا، فلم ينسلخ من ساد عالم اليوم عن ثقافتهم ودينهم، ولكنهم أدركوا أنهم «أعلم بأمور دنياهم».

نحن مسلمون، لا شك في ذلك، ولكننا لسنا بالضرورة إسلامويين، وفرق بين الإسلام والإسلاموية. كنا قبل «الصحوة» مجتمع مسلمين، نعطي الله حقه، ولا ننسى نصيبنا من الدنيا. وبعد «الصحوة»، أو لنقل «النكسة»، تحولنا إلى مجتمع إسلامويين، بعد خطف مؤسسات التنشئة، وأريد لنا أن ننسى نصيبنا من الدنيا. ولا خروج لنا من الحالة الراهنة إلا بالعودة إلى الدنيا التي أهملناها، أو أرادوا لنا أن نهملها ونحتقرها، فنعود إلى إسلامنا وإنسانيتنا. بدون اجتثاث الجذور الفكرية والثقافية العميقة للتطرف وما يفرزه من عنف، فإننا سنبقى نتعامل مع النباتات الطفيلية في حديقتنا بقص الرؤوس دون اجتثاث الجذور، وتعود الطفيليات بذلك إلى الظهور حينا بعد حين، وما استمرار وجود القاعدة ومؤيديها إلا مؤشر لاستمرار الحال على ذات الحال، ما لم يغير الحال، حفظنا الله وإياكم في كل حال.