ضريحه صدر وعجز

TT

ولد أبو القاسم الشابي، شاعر تونس، في بيت واحد من الشعر وفيه مات! كتب خلال حياته القصيرة الخاطفة والمليئة بالألم، مئات القصائد وأجمل القصيد، لكنه لم يعرف سوى بيت واحد، تناقله كل عربي كتب في الوطنية والحرية، مشرقاً ومغرباً واغتراباً. تناقلوه يوم كتبه وتناقلوه في الأربعينات واستشهد به كل كاتب زمن النكبة ثم زمن النكسة ثم في «العبور» تأكيداً على أن الذين تناقلوه في النكبة والنكسة كانوا على حق. ولا أعرف معدل الاستشهاد ببيت الشعر هذا، لكن يمكن القول إنه مرة في الأسبوع على الأقل، في 22 بلداً عربياً، وفي المطبوعات الصادرة في البرازيل وأستراليا وأفريقيا.

ليس هناك طفل عربي لم يردد «وللحرية الحمراء». وهو مطلع قصيدة غنتها أيضاً أم كلثوم، ومعظمها غزل ولوعة، لكن أحداً لم ينتبه إلى ذلك. لم يكتب الشابي في الوطنيات والحماسيات إلا قليلا. وبقية ما كتب شعر جميل، حداثي، مليء بالرمزية. وظني أنه كان على صلة أو على اطلاع بالحركة الرمزية في العالم العربي. وربما كان على معرفة بشعر الياس أبي شبكة في لبنان. وفي قناعتي، ولو غير مسندة، أنه تأثر كثيراً بمطولة جبران خليل جبران «المواكب» التي فيها «اعطني الناي وغني، فالغنا سر الوجود». ويقول أبو القاسم: فزمان الغاب طفل لاعب عذب جميل/ وزمان الناس شيخ عابس الوجه ثقيل/ لك في الغابات مرعاي ومسعاي الجميل/ ولي الإنشاد والعزف إلى وقت الأصيل.

نخر صدر الشاعر الشاب المرض فمضى إلى الطبيعة يتأملها ويبحث فيها عن العزاء وبدايات السماء. وأضناه الحب وزلزله اليأس: «أبدا ينوح بحرقة بين الأماني الهاوية/ كالبلبل الغريد بين الزهور الذاوية». وفي الطبيعة نادى على رفاق وحدته وعزلته «فأفيقي يا خرافي وهلمي يا شياه/ واتبعيني يا شياهي بين أسراب الطيور/ واملأي الوادي ثغاء وحبور».

هنا أيضاً نلاحظ جبران والمواكب بكل وضوح. وقد عاش مع الطبيعة شاعراً ومريضاً يطلب العلاج في بلدة تدعى «عين دارهم». وكما خاطب جبران الناي خاطب هو «شبابته». وكما خاطب جبران أصوله الفينيقية، هكذا فعل الشابي مستيقظاً على جذوره الفينيقية التي حملت إلى قرطاج من صور. ومثل جبران مزج الشعر بالتأمل. ولا أدري إذا كان في تلك المرحلة (عشرينات القرن الماضي) مطلعاً أيضاً على شعر «الأخطل الصغير». لكن الأكيد أننا عندما نبحث عن «وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق» قلما نلحظه عند الشابي، الذي تعاملنا معه وكأنه لم يكتب سواه.