تلبيس الطرابيش

TT

لست من رجال الاقتصاد ولا أنتمي لهم لا من قريب أو بعيد، ليس ترفعاً مني والعياذ بالله ـ فمن هو المجنون الذي يترفع عن رجال الاقتصاد الذين هم زينة الحياة الدنيا ؟! ـ، ولكنني لا أنتمي لهم لتواضع القدرات لديّ، ومنها الذهنية على وجه الخصوص، وكلكم تعلمون أن الاقتصاد مرتكز في أساساته على علم الحساب والجمع والطرح والضرب والقسمة، وأنا لا أفقه في علم الحساب شيئاً، وأكبر دلالة أنني انتميت في دراستي الثانوية للقسم الأدبي فراراً من المعادلات الرياضية، فإمكانياتي (على قد حالي)، وقد أكون خبيراً بشكل أو بآخر بصياغة الكلمات المشكولة بالكسر والرفع والفتح والشّدة.

ولكن تواضع قدراتي تلك لم تحد من لهاثي في تتبع الأخبار الاقتصادية، علّ وعسى أن ينالني من تتبعي هذا حتى ولو (طرطوشة)، وإذا لم يكن ذلك فعلّ وعسى أن تتبعي لتلك الأخبار أن يصدّ عني (غائلة الزمان) على الأقل، وأحافظ على البقية الباقية من (تحويشة العمر).

فليس هناك إنسان صغر أم كبر (بمأمن) في هذا الزمن المتوحش والمتقّلب المزاج.

ولدى خبراء الاقتصاد مثل (كلاسيكي) يوردونه أحياناً كنموذج وهو كالتالي:

يقذف أحد الدهماء نافذة خبّاز بحجر فيحطم زجاجها، فيحتشد جمهور من الناس، ويقول بعضهم: إن في هذا الحادث بعض الخير، فهو يهيئ لصانع الزجاج عملا، فيزداد دخله 50 دولاراً ينفقها عند تجار آخرين، ويزداد دخل هؤلاء 50 دولاراً ينفقونها في شؤونهم عند غيرهم من التجار، وهكذا ترى النافذة المحطمة لا تزال تهيئ مالا وعملا في دوائر تتسع اتساعاً مطّرداً.

وقد ألقى البعض على الموضوع رأياً مغايراً وقالوا:

حقاً إن هذا التخريب سيزيد عمل صانع الزجاج، ولكن الخبّاز خسر 50 دولاراً كان يزمع أن يفصّل بها ملابس جديدة من عند الخياط، فبدلا من أن يكون عنده واجهة زجاج بـ50 دولاراً، فهو الآن لا يملك سوى الواجهة بعد إصلاحها، فما كسبه صانع الزجاج خسره الخياط، ولم يزدد مجموع العمل شيئاً.

وفي وسعك أن تطبق منطق (زيادة القدرة على الشراء) على لص أو نصاب يسلبك مالك، فقدرة اللص على الشراء تزداد بعد فعلته، ولكن كل عمل يخلقه هو بما ينفقه من مالك، ينقص ما تنفقه أنت، لأن ما تنفقه يقل على قدر المبلغ الذي يسلبه إياك.

وهذا هو بالضبط ما فعله النصاب الأمريكي (مادوف)، كان عمله مجرد (تلبيس طرابيش) و (ومن دهنو سأيلوا)، ولكنها كانت عملية نصب فادحة قوامها عشرات المليارات من الدولارات، وبعدها (كرّت السبحة)، وأخذت الصروح تتهاوى على بعضها البعض (كحجارة الدومينو) إلى أن وصلت خسائر العالم إلى (الترليونات) - ولا أدري هل كتابتي (للترليونات) صح أم خطأ ؟!، لأنني أخذت أتهجّى هذه الكلمة ولساني يلوب داخل فمي أكثر من خمس دقائق ولا يعرف كيف ينطقها، ولكنني في النهاية أغمضت عيني وكتبتها كيفما اتفق.

الحقيقة أن كل شيء نظفر به ينبغي أن نوفي ثمنه - ما عدا ما تهبنا إياه الطبيعة -.

المشكلة أن الماء أصبح له ثمن، والحمد لله أن (الأكسجين) على الأقل لازال (ببلاش)، ويا خوفي أن يوماً سيأتي ويكون له أيضاً ثمن، ويموت بعض الناس بالاختناق، مثلما يموت البعض الآن بالعطش والقهر.. ولو سألوني عن طريقة الموت التي أتمناها لقلت لهم: ادفنوني في خزانة البنك الأمريكي (الفيدرالي) تحت الأرض، والمكتظة ببلاطات أرصدة الذهب، ولن تجدوني إن شاء الله إلاّ من القانعين.