فلتحيَ العروس

TT

قرأت عذابات طه حسين، كما مؤلفاته الأخرى، مرات عدة وفي مراحل مختلفة. وبقي شيء لا أفهمه. فالرجولة العربية لا تسمح بكشف المشاعر «الصغيرة» التي منها تتألف أهم وأعظم الأشياء في حياتنا. فقط عندما قرأت تذكارات زوجته، سوزان، عرفت كيف وقع للرجل البصير أهم وأخطر حدث في حياته: الزواج.

فالزواج للمبصر العادي أمر بدهي ولازم، لكن كيف يختار البصير زوجة له؟، بموجب أي حاسة؟ على أي معطيات يبني قرار الشركة؟ كيف يدرس طباعها؟ كيف يمحص في اللزوميات التي يدرسها أي إنسان عادي؟ ليس من حيث الجمال، فكثير من المبصرين يقبلون أو يختارون معاذات، وإنما من حيث الجوانب الدقيقة الأخرى، كالطباع والعادات وبعض الخلل الأساسي.

سوزان حسين كانت أكثر بساطة ومباشرة من الكاتب العظيم الذي ذهب طالباً أعمى إلى السوربون، وعاد ليصبح عميد الأدب العربي. قالت إنها قبله لم تكن كلمت أعمى في حياتها. وعندما أخذت تزوره في غرفته الجامعية اكتشفت أنه يسكن فيها مع أعمى آخر، هو أستاذه في اللغة اللاتينية. وعندما جاء أحد أشقائه من مصر أصبح عبئاً عليه، بدل أن يكون معيناً له، فاقترحت أمها أن يعطَى غرفة في بيتهم. قبل بعد تردد، لكن في البيت ظل يرفض مشاركة العائلة في وجبات الطعام، بسبب خجله. وكانت تأتيه قارئة تساعده في دروسه: ثم صرت أقرأ له عندما يكون وحيداً، وذات يوم قال لي «سامحيني، فأنا أحبك»؛ فانتفضت بفظاظة وقلت له «لكنني لا أحبك»، فقال بحزن «آه، أعرف ذلك جيداً، وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل». لكن مشاعرها تغيرت بعد حين. وذات يوم قالت لأهلها «أريد الزواج من هذا الشاب». وصرخوا بصوت واحد «ماذا تقولين؟ أعمى، وأجنبي، وعربي فوق ذلك؟».

تروي سوزان حسين أن معرفة العميد باللغة اللاتينية كانت متواضعة جداً، لكنه أظهر تقدما مذهلا في ذلك، ثم عكف على أطروحته «وكلما فكرت في ذلك، عاودتني الدهشة من أن امرأً كفيفاً يعرف القليل عن الثقافات القديمة استطاع في أقل من أربع سنوات أن يحصل على إجازة ودبلوم في الدراسات العليا، وأن ينجز أطروحة دكتوراه».

تزوجا في 9 آب 1917 في بساطة مطلقة، لكن أهله أصروا على فستان العرس والعربة التي تجرها الخيول. وكان ذلك منظراً غير مألوف في باريس في ذروة الحرب العالمية الأولى. وكانت المدينة مليئة بالجنود الذين يراقبون المشهد بمودة ويهتفون «فلتحيَ العروس». «وكنت أرد لهم التحية، وأبلغ طه بما يجري».