حماس تخرج من مخبأها

TT

انقضى عام ونصف على زيارتي السرية لخالد مشعل المرشد الأعلى لحماس. ففي سبتمبر (أيلول) من عام 2007، ركبت في المقعد الخلفي لسيارة مرسيدس مسدلة الستائر لكي أقوم برحلة من وسط العاصمة السورية دمشق إلى الضواحي الجنوبية للمدينة، حيث تعمل المجموعة الفلسطينية من مقرها الذي يحظى بحماية أمنية بالغة، الذي كان مهيأ لمسؤولين كبار في الحكومة السورية. لدى وصولي إلى المنطقة التي يوجد بها خالد مشعل، التي تغطيها الكاميرات السرية، أمرت أن أظل في السيارة، ولم أترجل من السيارة إلا بعد أن قام حراس المنزل بإسدال الستائر الكثيفة لتطويق السيارة كلية لضمان وصول متخف إلى مقر الحركة التي لديها كثير من الأسباب للخوف من العيون المتلصصة.

خلال تعرضي للفحص الجسدي، قال لي أحد مساعدي مشعل إن هناك بطارية صواريخ مضادة للطائرات مزروعة في التل القريب من المنزل. وخلال التفتيش تمت مصادرة كل ممتلكاتي وأدخلت إلى غرفة الاستقبال الكبرى لخالد مشعل عبر فاحص أمني يماثل ذلك الموجود في المطارات.

لم تعد تلك الإجراءات الأمنية اليوم بالقوة ذاتها كما كانت عليه من قبل في مخبأ حماس، فقد أصبحت أجندة خالدة مشعل ممتلئة لدرجة أنه بحاجة إلى موقف للسيارات التي تقل هذا العدد الكبير من الوفود الأجنبية القادمة لزيارته.

كانت آخر لقاءاتي معه في الثامن عشر من مارس (آذار) قد تم تأخيرها حتى وقت متأخر من الليل لأن مشعل كان منشغلا باستضافة عدد من المشرعين اليونانيين الذين أعقبهم وفد إيطالي، سبقها حضور عدد من الزائرين من بريطانيا والبرلمان الأوروبي.

لكن هذا الانفتاح المفاجئ على العالم جعل مشعل يواجه مأزقا يتمثل في التواجد الدائم لرجلين في منطقة يسهل فيها تصفية القادة إما بالرصاص أو أحيانا بصندوق الاقتراع. وعندما تحدثت إلى مشعل في عام 2007 كنت أجري معه مقابلة لأدرجها ضمن كتابي عن محاولة اغتياله الفاشلة التي وقعت في شوارع عمان بالأردن في سبتمبر (أيلول) 1997. كان مشعل حينها يحتل مرتبة متوسطة في صفوف الحركة، وكان من حاولوا اغتياله هم عملاء الموساد الذين أرسلهم بنيامين نتنياهو الذي أصبح رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد.

خلال عقد التدخل قامت دائرة الشرق الأوسط باستدارة كاملة، فلا يزال كلا الرجلين حيا، وقد صعد خالد مشعل إلى قيادة حماس وبنيامين نتنياهو تولى رئاسة الوزراء للمرة الثانية. ويواجه نتنياهو الذي عاد إلى السلطة في أعقاب الحرب على غزة حماس التي لم تنحن. والفضل في ذلك يرجع في جزء كبير منه إلى محاولة الموساد الفاشلة في اغتيال مشعل، التي كانت ذات أثر كبير في إعادة انتعاشة حماس بالقدر ذاته الذي أسهمت به في إذلال الحكومة الإسرائيلية.

وخلال مناقشتنا الشهر الماضي تحدث مشعل للمرة الأولى عن التحديات التي تواجه حماس في فترة ما بعد بوش، التي شهدت فوز أوباما بالرئاسة وعودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة وزراء إسرائيل وحرب غزة، وحملة واشنطن الجديدة «لحوار» مع راعيتي حماس الإقليميتين ـ سورية وإيران.

وقد رفض مشعل الانطباع بإمكانية إقحام حماس في أي صراع جديد قد ينشأ في المنطقة، وفسر الخطاب الأميركي الموجه لكل من سورية وإيران على أنه اعتراف بالأخطاء السابقة واعتراف بأن على الولايات المتحدة أن تتعامل مع «الأطراف التي أثبتت ذاتها». وأصر مشعل على أن حماس «لن تكون ورقة في يد أحد، لكنه أكد في الوقت ذاته على ضرورة عدم سعي واشنطن «لعزل أطراف معينة على حساب أطراف أخرى». وشدد مشعل على تغيرات السياسة، مشيرا إلى أن حماس قد تبدي تغيرات إزاء أي ظروف جديدة. وقد أوضح أن الحركة قد تغيرت بشأن الكثير من القضايا الرئيسة فقال: «لقد تبدلت حماس بالفعل، وقبلنا الوفاق الوطني من أجل دولة فلسطينية تقوم على حدود 1967 وشاركنا في الانتخابات الفلسطينية التي أجريت عام 2006».

وعندما ألقيت عليه السؤال المحوري بشأن إعادة كتابة ميثاق حماس، الذي ينادي بتدمير دولة إسرائيل، رد على الفور «كلا على الإطلاق». خالد مشعل ليس كياسر عرفات يسعى للحصول على جائزة نوبل للسلام. ومن بين مبادئ حماس الراسخة أن ياسر عرفات عندما وقع في عام 1993 على اتفاقية نبذ العنف والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، أجرم في حق شعبه. (غير أن البعض ممن تحدثوا معه أخبروني أنه قال «عندما يحين الوقت سنقوم ببعض الخطوات التي طالب بها الغرب»).

الغريب، أنه على الرغم من تزايد الدعوات من السياسيين وصانعي القرار حول العالم بضرورة منح حماس مقعدا في طاولة مفاوضات الشرق الأوسط، فإن مشعل قال إنه لا يزال ينتظر الوقت الملائم. وكانت رسالته واضحة في ذلك: «راقبوا ما نفعل وليس ما نقول».

وعلى الرغم من عدم قدرة الكثيرين في الغرب على فهم حسابات استراتيجية حماس في الحرب والإرهاب، فإن الحركة أظهرت قدرتها الكبيرة على التحكم في حربها كما فعلت في صيف وخريف 2008. كما أثبتت أيضا قدرتها على التفاوض مع إسرائيل عبر طرف ثالث. وتقبل حماس على المدى البعيد فكرة الدولتين، وهو الأمر الذي سيجعلها أقرب إلى واشنطن منها إلى نتنياهو الذي يقترح الآن إقامة «سلام اقتصادي» فقط بين اليهود والفلسطينيين. ولأنه وجد نفسه في وسط الساحة مع الرجل الذي أمر بقتله من قبل، يصر خالد مشعل على أن نتنياهو ليس آخر رئيس وزراء وقال «إنه قدر الله، لكننا لا نستطيع أن نضع سياستنا على أساس أحقاد شخصية».

وربما يكون ذلك صحيحا، ولكن كانت العداوة الشخصية بين آرييل شارون رئيس الوزراء الأسبق وياسر عرفات، سببا في أن شهد كل من الفلسطينيين والإسرائيليين مثل هذه التغيرات في القيادة. ومرة أخرى، فإن العداوة الشخصية بين مشعل ونتنياهو يمكن أن تهيمن على تعقيدات مشكلة الشرق الأوسط.

* مراسل صحيفة «سيدني مورنينغ هيرالد أوف أستراليا».. ومؤلف كتاب

«اقتلوا خالد: محاولة الاغتيال الفاشلة لخالد مشعل ونهضة حماس»

*خدمة «نيويورك تايمز»