استقلاليو لبنان يدفعون ثمن الارتباك الدولي والمناورات الإقليمية

TT

«الحمامة عندما تطير تتصور أنها تعاني من تيار الهواء،

من دون أن تدري أنه ما يساعدها على الطيران»

(الفيلسوف إيمانويل كانط)

أين يمكن للمحلل الجاد رسم خطوط الفصل بين الارتفاع المفاجئ لوتيرة التفجيرات في العراق، والخطاب السياسي الإسرائيلي الذي يعود لمطالبة العالم بإشاحة النظر عمّا يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والكلام الأميركي المبهم إزاء أولويات التعامل مع الملفات الساخنة في الشرقين الأدنى والأوسط... وصولا إلى باكستان، والارتباك الكارثي داخل لبنان لدى اقترابه من مفصل قد «يشرعِن» هيمنة طهران ودمشق على الحدود الشمالية لإسرائيل عبر صندوق الاقتراع مدعومة بسلاح «حزب الله»؟

إنه تساؤل متشعب ومقلق، والإجابة عليه تبدو صعبة... في ظل استمرار «النية الأميركية الحسنة» عند إدارة باراك أوباما لقلب كل الحجارة وطرق كل الأبواب بحثا عن حلول بديلة لـ«صدامية» عهد جورج بوش الابن و«استئصاليته» الهوجاء.

تغيير أسلوب تعاطي واشنطن مع العالم كان مطلوبا وضروريا. وكان في طليعة الساعين إليه حلفاء واشنطن الأوروبيون... ولو بكثير من التهذيب واللطف. غير أن الوقت حان لكي تبلور الإدارة الجديدة سياسة عملية بعيدة عن المثاليات بقدر ما هي بعيدة عن النقض والنكاية.

بالأمس تكلمت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بإسهاب عن «الخطر» الباكستاني، بشقه الأصولي «القاعدي ـ الطالباني»، كما تطرقت إلى الحالة الإيرانية والحاجة إلى اعتدال إسرائيلي تجاه الفلسطيني يسمح ببناء حالة شرق أوسطية تتصدى للتمدد الإيراني.

لكن تل أبيب ليست في هذا الوارد. فالحكومة الإسرائيلية ـ وبالذات الحكومة الحالية ـ تعرف تماما ما تريد. وهي في ظل ابتعاد واشنطن عن تبني أي خيار حاسم إزاء المنطقة... ما زالت تملك زمام المبادرة حتى داخل واشنطن. ومفتاح تفكير هذه الحكومة هو إنهاء القضية الفلسطينية بأيدي الفلسطينيين أنفسهم.. إذا أمكن. ولهذا، فتل أبيب تريد من واشنطن ومن أوروبا ومن الأمم المتحدة التوجه بعيدا عن أرض فلسطين لـ«دق رؤوسهم» بإيران، حيث هي تعرف سلفا أن لا نية لديهم بالحسم العسكري، لعدة أسباب، في طليعتها الأهمية الجيوبوليتيكية لإيران في وجه خصوم أميركا والغرب الآخرين المحتملين.. من باكستان أصولية نووية.. إلى الصين.. إلى روسيا في مستقبل الأيام.

من ناحية ثانية، لا مشكلة لإسرائيل مع إيران «براغماتية» تفهم حدودها، ولقد وسبق لها أن تعاملت معها تحت الطاولة غير مرة، ابتداء من «إيران كونترا» (1985 ـ 1986)، وكان كل من الجانبين يدرك تماما ما يتوقعه منه الجانب الآخر. وإذا كانت طهران قررت تحت «شعارات تحرير فلسطين» توحيد كل القوى الإسلاموية التوجه في المنطقة تحت عباءتها. . فهذا أمر من شأنه أن يريح إسرائيل، لأنه يوحد المرجعية ويسهل عقد الصفقات الكبرى معها، بدلا من المطاردة المستحيلة لأشباح وشراذم هائمة ونائمة.

التفجيرات الأخيرة في بغداد وخارجها تبدو وكأن المقصود منها «التذكير» باحترام ميزان قوى معين مع استمرار العد التنازلي للانكفاء الأميركي العسكري داخل العراق. أما في لبنان، حيث يسود الارتباك و«الأخطاء» الكلامية والتنظيمية الفظيعة مناخ الانتخابات العامة، المقررة يوم 7 يونيو (حزيران)، فتنبت كل يوم معطيات جديدة، منها «كشف» شبكات تجسس لحساب إسرائيل من اللافت جدا توقيته، بعد «كشف» مصر شبكة «حزب الله» والتوسع في التحقيق مع أفرادها.

تقرير بان كي مون، أمين عام الأمم المتحدة، نصف السنوي عن تطبيق قرار مجلس الأمن 1559 الخاص بلبنان قد يفسر بارتباكه وتضارب تحليلاته أسباب الارتباك الحاصل على الساحة اللبنانية. فقد تعامل بان بالتساوي تقريبا في تقريره بين المظاهر الإيجابية التي هي في الحقيقة مظاهر هشة، ومكامن الخطر الجوهرية الكفيلة بنسف كل تلك المظاهر. لكنه على الأقل خلص إلى القول أنه «لا تزال الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية تشكل تهديدا لاستقرار البلاد، وتتحدى وجوب احتكار الحكومة والقوات المسلحة اللبنانية استعمال القوة على كل الأراضي اللبنانية. وهكذا فإن القرار 1559 لا يزال ينتظر التطبيق الكامل!»، بجانب قوله إن «التهديد» الذي تشكله المجموعات المسلحة والميليشيات «يشيع جوا من الترويع في سياق الانتخابات النيابية المقبلة، بجانب تقويضه استقرار البلاد وتعارضه مع أهداف القرار 1559».

المعطيات التفصيلية الدقيقة الواردة في تقرير أمين عام الأمم المتحدة تعني أن الرأي العام العالمي ملمّ تماما بوضع لبنان والمنطقة، وكذلك أدوار كل من إسرائيل وإيران وسورية. لكن الإلمام شيء ونية العمل شيء آخر.

فأي لبنان تتوقع دوائر القرار العالمي بعد 7 يونيو المقبل؟ وما هي حدود تعاملها مع سلطة يقودها فعليا «حزب الله» إذا فازت قوى «8 آذار» بالانتخابات؟ وماذا يعنيه على الأرض اقتراب إيران من حدود إسرائيل الشمالية بمعزل عن الخطابيات المتوترة المتبادلة عن «الإرهاب» وإنكار المحرقة النازية؟

الشيخ نعيم قاسم، نائب أمين عام «حزب الله»، واثق من أن المجتمع الدولي سيتعامل مع الأمر الواقع بعد الانتخابات، ولا شك أن «الفذلكة» البريطانية لفتح قنوات حوار مع ما اعتبرته لندن «الجناح السياسي» (!؟) لـ«حزب الله» يصب في هذا الاتجاه.

أيضا يصب في هذا الاتجاه الأخطاء شبه الانتحارية التي ارتكبتها قوى «14 آذار» خلال فترة قياسية.. بالضبط في الوقت الخطأ، مع اقتراب موعد الانتخابات. فلو تعمد أقطاب «14 آذار» تفتيت صفوفهم وتنفير جمهورهم وتأمين «تسونامي» جديد لخصومهم ـ الأكثر طائفية وتعصبا منهم ـ لما وفّقوا بقدر ما وفّقوا خلال الأسبوعين الماضيين.

وإذا تركنا جانبا الأخطاء «الفاقعة» الأكبر التي سمّمت الجو الانتخابي خلال الأسبوعين الأخيرين، يكفينا النظر إلى أحد الأخطاء البديهية البسيطة.. وهو ذلك الذي ارتكب في معركة صيدا الانتخابية، حيث رشح رئيس الحكومة فؤاد السنيورة نفسه.

فالرئيس السنيورة، من دون أدنى شك، من ألمع شخصيات «قوى 14 آذار»، ووجوده في مجلس النواب يعزز موقعها السياسي. لكنه في حساب الأرقام لن يضيف أي ناخب إضافي إلى ما يمكن أن تناله قائمة «14 آذار» لأنه من قاعدة تيار «المستقبل» الممثلة أصلا بالوزيرة بهية الحريري، وناخبوه هم أنفسهم ناخبو الحريري. وبالتالي، كان من الممكن تنحي الوزيرة الحريري جانبا، وتشكيل القائمة من السنيورة وشخصية أخرى قد تكون الدكتور علي الشيخ عمّار عن «الجماعة الإسلامية» أو غيره.

أخطاء تقديرية مماثلة حصلت في طرابلس والبقاع الغربي وغيرهما، وقد تحصل خلال اليومين المقبلين في أماكن أخرى، كلها ستفيد الخصوم، وبالأخص الحاقدين والشامتين منهم.

كيف ارتكبت هذه الأخطاء؟.. ولماذا؟

ربما بسبب ضعف اللحمة التي تجمع مكونات «14 آذار» طائفيا وآيديولوجيا، ولكن لا يمكن أن يكون هذا السبب الوحيد، لأن لحمة «8 آذار» أضعف وأكثر نفاقا. ولكن في المقابل، وراء «8 آذار» مايسترو يضبط الإيقاع ويخطط للبعيد.. في حين أن الـ«14 آذاريين» أسرى ردات الفعل والخوف من الخصم المشترك.