كله تبصير!

TT

بالرغم من الرفض المعلن والصريح في العالم العربي لموضوع ومسألة التنجيم أو كما يطلق عليه «التبصير» وتحريمه الشرعي المعروف، إلا أن شيوع وانتشار هذه العملية لم يعد سرا أبدا! والمسألة باتت واضحة جدا للعيان مع انتشار الكتب «السنوية» وضيوف الفضائيات الدائمين الذين يتحدثون عن الطالع من الأحوال ويلقون بتنبؤاتهم ذات اليمين وذات الشمال بكل ثقة وأناقة.

ولكن شيئا ما آخر يحدث وهو انتشار «التبصير الافتراضي»، ودعوني هنا أشرح ما أعني بروية. هناك «مساحة» هائلة منحت فجأة لأعداد مهولة من الناس في مجالات شتى للحديث مع العامة والإدلاء بالآراء، وظهرت معها العلل والأمراض المرعبة. فاليوم في ظل غياب التخصص والمعلومة والمحاسبة والمسؤولية، بات من «حق» الكل أن يتحدث ويقول ويجزم ويؤكد ويعد بلا أي رادع ولا محاسب. فالسياسي يمارس التبصير وهو يعد ويقول ويرمي بالأحلام الوردية، دون مرجعية تحاسبه على وعوده ولا على كلامه، فهو «يبصر» بمستقبل لا حول له فيه ولا قوة لأن قراراته هوائية وعشوائية في معظم الوقت.

الاقتصادي يمارس «التبصير» بشكل مغاير، فهو يمنح الأرقام والإحصائيات كدعامة لآرائه، رغم أنه وليد مجتمع لديه حساسية مفرطة تجاه المعلومات والإحصائيات، فالموجود منها إما قديم أو غير موثق وبالتالي تكون المعلومة ناقصة وغير مفيدة.

رجال الدين هناك البعض منهم ليس ببعيد عن «التبصير» فهو يفتي في بعض المسائل التي لا علم له في تفاصيلها وفي تقنية تفاصيلها ويحيط رده بديباجة تقليدية «آمنة» يستطيع المتلقي أن يأخذها بدون شك أو قلق ولكنها حتما لا تفي بالغرض المطلوب لأنها دون عمق كاف أو دراية كافية في التخصص المعني.

حتى الطبيب نفسه صاحب المهنة الراقية هو الآخر لا ينجو من التبصير الافتراضي، فهو لم يطور معلوماته لسنين طويلة وغاب عن البحث العلمي والمشاركة في الندوات والمؤتمرات المتخصصة، وأصبح ضيف شرف على تخصص يتطور ويتغير فيلعب اللعبة الآمنة هو الآخر بوصفة «المضاد الحيوي» في كل المسائل والعلل حتى لا يفتضح جهله بالأمراض المستحدثة والعلاجات المتطورة.

الأمثلة لا تنتهي عن نماذج «التبصير الافتراضي» الذي ابتلينا به في مجالات شتى، ففي تلك النماذج وغيرها غابت المنهجية العلمية في مواجهة القرار واتخاذه وغاب عنها الاعتماد على العلم والمعلومة فبات مسألة أشبه باستراق السمع وضرب المندل وليقولوا ما يشاءون فالكلام لا حساب عليه. علة وخطورة «التبصير الافتراضي» أنه يتوغل في كل نماذج الحياة بيننا ويصبح نهجا أساسيا ومشكلا لسياسات وتشريعات ورؤى وآراء تحكم المصائر وتحدد التوجهات. وبالرغم من وجود حالة رفض ومنهج تحريم قاطع للتنجيم ومن يقوم به ويشجعه إلا أن مساحة الجهل وغياب التخصص وفقدان المسؤولية سمحت بظهور «التبصير الافتراضي»، وانظر حولك وتأمل لترى فداحة نتائجها وكثرة أضرارها. لم تعد هناك حاجة للصَدف وورق الشدة «الكوشتينة» أو فنجان القهوة أو غيرها من أساليب الدجل والشعوذة لممارسة التبصير، فهناك أساليب جديدة تتطلب منبرا أو منصبا أو مكانة.. وسلامتكم.

[email protected]