مصر واستعادة الشارع العربي

TT

لا أحب مبدأ «عدم التدخل»، فقد استخدمته قوى العزلة الرافضة للعروبة، واستغله نظام السيادة ضد حق المعرفة، حق العرب في التعرف على قضاياهم وهمومهم المشتركة، حقهم في الاتصال والتواصل والتبادل والتعاطف، عبر أسوار «الاستقلالات» و«السيادات» المصطنعة، وعبر الحدود المحروسة بأجهزة المنع والرقابة وجوازات السفر.

لكن حق المعرفة لا يعني حق التدخل للإيذاء، وإلحاق الضرر بمجتمع عربي آخر. وإلا ماذا يعني أن تتدخل «قاعدة» ابن لادن، لتقتل من الشيعة والسنة في العراق، أكثر مما قتلت من قوى الاحتلال؟ وماذا يعني أن يرسل حزب الله عملاءه، بأسماء مستعارة وجوازات سفر مزورة، إلى مصر لتشكيل خلايا سرية، وتجنيد مصريين وفلسطينيين وسودانيين، بحجة تسليح حماس في غزة؟!

في هذه الحالة، من حق الدولة العربية، بصرف النظر عن النظام الذي يحكمها، أن تمارس مهمة الدولة الأولى، مهمة اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية أمن بلدها، وسلام واستقرار مجتمعها. قتل الشيعة والسنة في العراق ليس مقاومة وطنية، ولا جهادا دينيا. العبث بأمن مصر، و قتل زوارها، وتخريب منشآتها، وتأليب جيشها ومجتمعها ضد نظامها، ليس تكليفا دينيا يرضي الله، ليباهي به علنا عملاء إيران في لبنان.

من كان بيته من زجاج وطين، لا يرمي بيت أشقائه بالحجارة. ليس من حق وأدب التليفزيون أن يستدعي المزايدين، لتوزيع الاتهامات والافتراءات. ليس من حقه تصنيف العرب خونة ووطنيين. حزب عاجز عن الاشتباك مع عدوه، ويفصل نفسه عنه بالتزامات وقوات دولية، ليس من حقه إرسال مخربيه مسافة مئات الكيلومترات «للجهاد» ضد بلد عربي، فيما كان الأولى به، إن أراد الجهاد حقا، أن يرسلهم مسافة رمية حجر، للجهاد في جبهة عربية مقفلة منذ 36 سنة.

هذه هو المنطق، لكن المنطق أيضا يقول إن التزام مصر الطويل «بعدم التدخل» في العالم العربي، هو الذي يغري أعداءها ومنافسيها بالتدخل في شأنها، والاستهانة بمكانتها ودورها، والاستخفاف بقدرتها، كأكبر دولة عربية، على كشف العابثين بأمنها وسلامها.

مصر هبة النيل للعرب. العروبة قدر مصر سياسة ونفوذا، حاضرا ومصيرا. لولا مصر لما كان للعروبة دوام واستقرار في المشرق والمغرب. قلت وما زلت أعتبر عمرو بن العاص عبقري الإستراتيجية العربية بلا منازع. لم تكد الشام تستقر في حضنها العربي، حتى بدأ عمرو يلح على أبي بكر وعمر بن الخطاب، لاستكمال عروبة الشام بتحرير فلسطين. لم يكد عمر يدخل القدس، حتى بدأ عمرو يلح عليه لتعريب مصر. استجاب عمر بعد تردد. وهكذا، تم فتح وتعريب مصر، امتد عمرو بالعرب والإسلام إلى المحيط الأطلسي في المغرب.

قبل التعريب وبعده، كانت مصر تخسر استقرارها، بل استقلالها، كلما انحسر نفوذها عن محيطها. في العصر الحديث، كاد إبراهيم بن محمد علي أن يحقق أول وحدة عربية حديثة، عندما استقر في سورية ولبنان. كاد يقوّض الإمبراطورية العثمانية المستعمرة للعرب، بجيشه الذي وصل به إلى أسوار إستنبول.

الإمبراطورية البريطانية واصلت مهمة الإمبراطورية العثمانية، في فصل مصر عن العرب. قوّضت بريطانيا ثورة عرابي على الخديوي، بعدما أكد عروبة مصر في بيانه الانقلابي. حاولت بريطانيا إحياء ثقافة حضارة ماتت وشبعت فناء وموتا (الفرعونية)، وتجهيل مثقفي مصر ومفكريها بعالم عربي، كان يعرف عنهم أكثر مما يعرفون عنه، أو يؤمنون به.

نفض عبد الناصر الغبار عن عروبة مصر. استعاد زعامة مصر ونفوذها. لكن دبلوماسيته الشعبية وضعته على خلاف وصدام مع النظام العربي. ثم أتلفت لا ديمقراطيتُه تجربتَه القومية الوحدوية مع سورية. السادات ذهب بعيدا في تغريب مصر عن عروبتها. لكنه كان صادقا في تعهده بعدم انتهاج نهج دبلوماسية عبد الناصر. تجاهل السادات الامتداد العربي الحيوي لمصر، فكان أن خسر نفسه، وخسر العرب ثقل مصر السياسي والقومي.

مبارك أدرك عبرة التاريخ. أعاد مصر إلى العرب. كان أيضا حريصا على ممارسة دبلوماسية شخصية، جعلته صديقا وحليفا للنظام العربي. كان التقارب المصري ـ السعودي حلفا مدهشا، في كونه محورا فضفاضا ليس ضد محاور. كان مبارك أمينا مع العرب. لم يتدخل. لم يتورط في شؤونهم الداخلية. انتقال مركز الثقل السياسي والمادي إلى الخليج، لم ينقص من قيمة ودور مصر. لم يشكل أدنى حساسية أو حسد في نفس مبارك ولدى نظامه.

بيد أن انهيار عروبة العراق، واختراق إيران للشارع العربي، وتنافسها مع تركيا وإسرائيل على ملء «الفراغ المصري» في الشرق، وإقامة قاعدة عسكرية وحزبية لها في لبنان، ثم نجاحها في استقطاب سورية واستمالة قطر، كل ذلك بات يفرض على مصر مبارك تطوير دبلوماسيتها الشخصية، بالتوجه مرة أخري إلي مخاطبة الشارع الشعبي العربي الذي اخترقته إيران.

الهجمة الإيرانية، بأدواتها اللبنانية والفلسطينية، علي مصر، كانت بمثابة دلالة قوية على الحاجة الملحّة إلى سد الثغرات العربية في الدبلوماسية المصرية. لم تعد إيران ترضى بسلام مصر البارد مع إسرائيل. بل ها هي تحرك «عربها»، لهز استقرار مصر، وضرب أمنها الداخلي، بل محاولة قلب نظام حكمها، لمجرد إقامة قاعدة إيرانية أخرى في غزة.

ماذا أعني بعودة مصر إلى الدبلوماسية الشعبية؟ لا أعني توريط مصر مبارك بالعودة إلى دبلوماسية عبد الناصر السياسية والشعبية التي وضعته في مواجهة صعبة وعبثية مع النظام العربي، إنما مصر مبارك قادرة على إعادة التواصل مع الشارع العربي، من خلال الانفتاح على نخبه المثقفة، وأحزابه الديمقراطية، وتياراته الليبرالية.

الدبلوماسية المصرية أعرق دبلوماسية عربية حديثة. هي بوجودها في معظم دول العالم، بمثابة دبلوماسية دولة كبرى. لكنها تحتاج اليوم إلى تزويد سفاراتها في العالم العربي بدبلوماسيين أكفأ، ومثقفين أكثر وعيا وشبابا وإيمانا وفهما للعروبة.

مصر بحاجة إلى الاندماج في صميم بيئتها العربية، من خلال فتح مراكز ثقافية تخدم الإشعاع الثقافي المصري الحر، تماما كما تفعل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا في العواصم والمدن العربية. لا خوف من دعوة المثقفين والمفكرين العرب الأحرار، لإلقاء محاضرات في الجامعات والمنتديات والتلفزيونات المصرية. الثقافة أيضا سياسة. الثقافة سياسة نزيهة بريئة. النظام العربي عليه تشجيع مصر على إيفاد مثقفيها ومفكريها إلى العالم العربي.

كانت الصحافة المصرية منارة ثقافية تخدم نفوذ وثقافة مصر الليبرالية في العالم العربي. هذه الصحافة مدعوّة اليوم إلى استعادة القارئ العربي، باهتمام أكبر بالأخبار العربية، وبتحليل أعمق للسياسات العربية، وبمعرفة أوسع بالثقافات العربية. كل ذلك ليس مستحيلا على مصر مبارك، ولا يكلفها مالا طائلا.

قلت وأكرر: لا عودة إلى الدبلوماسية الشعبية الناصرية. مضي زمن اعتماد «الكاريزما» الشخصية التي تذوب بمجرد غياب شخص محدود، بعمر يظل مؤقتا وقصيرا، مهما طال. لكن مضي أيضا زمن الدبلوماسية التقليدية. نحن بحاجة إلى دبلوماسية تسترد الشارع العربي من نجاد وحسن حزب الله وابن لادن.