هل يصير اليمن صومال الجزيرة العربية؟!

TT

إن استمر الوضع كما هو، فاليمن ماض على سكة الصومال أو العراق. هكذا أطلق رئيس اليمن علي عبد الله صالح تحذيره المخيف قبل أيام قليلة.

الرئيس صالح لم يكن يتحدث عن خطر «القاعدة» أو الحوثيين، وإن كان يلوح بهم، كان يتحدث بشكل محدد ومباشر عن جماعات «الحراك السلمي»، وهي التسمية التي تطلق على التيارات الجنوبية اليمنية التي تنادي بفض تجربة الوحدة، بدعوى وقوع الظلم من قبل الشمال على الجنوب.

حجة الرئيس اليمني الأساسية في التخويف من سيناريو الصومال واليمن، هي أنه لن تكون الأمور كما يتوهم دعاة الهوية الجنوبية المستقلة، فلن يقتصر الأمر على صيغة دولتين؛ واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب، فباب التقسيم إذا فتح سيكون ما يخرج منه غزيرا وكثيفا وسنتحول ـ حسب صالح ـ إلى مشهد حرب أهلية شاملة في اليمن وقتال من قرية إلى قرية ومن محافظة إلى محافظة ومن إقليم إلى إقليم. وفي مجتمع مسلح بالكامل، ومحتقن بالأحلام التاريخية والأصولية والنزعات القبلية الذاتية، ومدجج بالأسلحة من كل صنف ولون، ومحبط من الفقر والعوز وهشاشة السلطة المركزية، يمكن توقع أن ما يحذر منه الرئيس صالح ليس مجرد تخويف على طريقة الأمهات اللواتي يحذرن أطفالهن من «الغولة» أو «حصان القايلة» كما في الثقافة السعودية المحلية، بل هو تخويف حقيقي وواقعي.

بمراجعة سريعة فإن الاتحاد بين شطري اليمن، الذي تم في مايو 1990، كاد ينفرط بعد اندلاع حرب الوحدة في ذكرى الوحدة، أي في شهر مايو 1994، وانتصر الرئيس صالح مع حلفائه من الإخوان المسلمين (حزب الإصلاح)، وتحت مظلة الإخوان انخرطت تيارات الجهادية السلفية، وأطراف جنوبية فاعلة، منهم الشيخ طارق الفضلي، الذي كان من رموز التيار الجهادي السلفي ضد الحزب الاشتراكي الجنوبي، وهو الآن، أعني طارق الفضلي، من أبرز الأصوات الحادة المطالبة بانفصال الجنوب والمتغنية بهوية وعظمة وثقافة الجنوب اليمني، وهذه من مفارقات الأيام، فبعدما كان الفضلي رجلا أمميا يدعو لتحطيم الحدود المصطنعة وإقامة دولة الخلافة الإسلامية على طريقة الظواهري وأسامة بن لادن، ها هو يعود في خطابه السياسي إلى التركيز على الهوية الجنوبية ويطلق نداءه لسكان الجنوب بـ «يا أبناء الجنوب الأحرار» كما في خطابه الأخير الذي دعا فيه للتظاهر والتجمع في منطقة (أبين)، منددا بلصوص الشمال «الدخلاء» على أهل الجنوب، في حين أنه لا يوجد في القاموس الإسلامي السلفي مثل هذه المصطلحات، فالمسلمون كلهم إخوة وليس بينهم دخلاء، الغريب أن علي سالم البيض زعيم حرب الانفصال في 1994، حينما ألقى خطاب الحرب، لم يوجهه على أساس انفصال الجنوب، ولم يقصر خطابه على أهالي الجنوب مستثيرا حماستهم المحلية، بل خاطب أهالي اليمن كلهم، مناديا بإعادة تكوين الوحدة اليمنية على أساس ديمقراطي عادل، هكذا كان خطابه، بصرف النظر عن حقائق ومآلات الأمور، لكن المهم هنا هو نوعية الخطاب التي كانت، على مستوى اللغة، جامعة وطنية مع علي سالم البيض، ومفرقة إقليمية مع «المجاهد» طارق الفضلي.

اليمن يمر بمرحلة حرجة، مع تصاعد نزعات الانفصال الجنوبي، وهو أخطر شيء يهدد الكيان اليمني الحالي، معطوفا على التمرد الحوثي، وهو «حراك شمالي زيدي» أضف إليه «حراكات القاعدة» هنا وهناك، وربما تحقق مطلب الجنوبيين، ويجب أن نكون واقعيين هنا ونبتعد عن لغة الأماني، فهم الحركة الأهم، بسبب وجود «نخبة» جنوبية فاعلة تدعم هذا التوجه، سواء في جنوب شرق آسيا أو في المهاجر الأخرى، وأيضا بسبب قيام الخطاب الجنوبي على أساس المظلمة الاقتصادية والتنموية وتقديم خطاب الضحية الذي لم يكسب من حالة الوحدة إلا تدفق «الدخلاء» الشماليين على مقدرات الجنوب وأراضيه وثرواته. هكذا يقول خطاب المعارضة الجنوبية، وهو خطاب يفعل الأفاعيل في ظل حالة التردي الاقتصادي الذي يمر به اليمن بسبب فقر الموارد وسوء الإدارة، فالدولة هي تقريبا المورد الاقتصادي الأول للمواطنين، في حالة ضعف وهزال تام للقطاع الخاص رغم وعود الدولة، التي تنتظر القروض والمساعدات والهبات الدولية والإقليمية.

لكن بعض المراقبين اليمنيين يحذرون من أن الأمور ليست كما تبدو في هذه الثنائية بين شمال وجنوب، فربما نشهد حالات تبعثر أكثر وشرذمة أخطر، حتى داخل الجنوب نفسه، وداخل الشمال نفسه، أخذا بالاعتبار واقع السلطنات والمشيخات المتعددة في الجنوب التي كانت قائمة في ظل العهد البريطاني، وأخذا في الاعتبار حالة التمرد «الزيدي» في جبال اليمن الشمالية، وهي فئة ذات خطاب مذهبي حاد، يزداد حدة مع الأيام وكثرة المواجهات العسكرية، هذه الفئة لن تكون محل رضى وقبول بالقيادة لبقية السكان الشماليين السنة، ضع هذا الواقع كله على حقيقة ضعف السيطرة للسلطة المركزية في صنعاء. هنا فعلا نصبح، كما قال الرئيس اليمني، أمام سيناريو الصومال الكئيب، وهي الدولة المريضة الممرضة التي تقع على مرمى حجر من البحر اليمني.

وما دام علي عبد الله صالح مثّل بالصومال، فيجب أن نتذكر أن كارثة الصومال الحالية وتحوله إلى ملاذ للقراصنة والإرهابيين والحالمين بتكوين سلطنات وإمارات حرب على طول البر الصومالي، هذه الكارثة ليست وليدة اليوم، بل هي منذ سقوط نظام محمد سياد بري 1991، وهو الرجل الذي كان حليفا للسوفييت ثم انقلب عليهم بعد انحياز السوفييت إلى إثيوبيا ضده في حرب أوغادين، وبحثه عن السند الأميركي الذي لم يسعفه، ثم التراخي العربي في حل مشكلة الصومال من البداية، فتطورت الأمور وتعقدت في ظل أطماع الجيران الأفارقة ودهشة العالم من سقوط القطب الشيوعي، وإعلان النظام العالمي الجديد، وهي حالة تفكك للكيانات الكبيرة لم تقتصر على الصومال، بل كان لها نظير في إقليم البلقان الأوروبي، لكن الذي ميز الصومال في هذا المناخ هو استمرار أزمته إلى اليوم. هناك حالات تشابه وحالات اختلاف بين الصومال واليمن، فالظروف الدولية غير تلك الظروف التي مر بها صومال سياد بري، فاليمن يمثل حجرا رئيسيا في الحرب على الإرهاب، وهو يقع على شواطئ بالغة الحيوية، ثم إنه يمتلك حدودا طويلة مع السعودية، وهي أهم بلد في سوق الطاقة العالمية، وأثقل بلد في الوزن المعنوي للعالم الإسلامي. وهناك الخبرة التي يتمتع بها الرئيس علي عبد الله صالح.

لكن الصعوبة التي يواجهها ليست سهلة، بدءا من إقناع المواطن بجدوى الوحدة لهم على مستوى الحياة والعيش الكريم، فالوحدة والوطن والهوية ليست مجرد شعارات عاطفية، بل هي أوضاع وصيغ توفر للمنتمي لها «مصالح» تجعله يحميها ويدافع عنها، الشعارات لا تطير إلا على أجنحة المصالح. وانتهاء بالنظر الحقيقي في مظالم أهل الجنوب أو غيرهم، فما جرى هو حرب «وحدة» وليست غزوة لتحصيل الغنائم، للأمانة الرئيس اليمني كان شفافا وهو يخطب قبل أيام معترفا بالأخطاء التي وقعت على أهل الجنوب وواعدا بالتغيير، والأهم أنه شرح حقيقة المشكلة الاقتصادية التي تمر بها دولة اليمن، طالبا التعاون من أجل خلق تنمية حقيقية بعد مرور حوالي 15 عاما على حرب الوحدة اليمنية.

هي صورة رسمها رئيس اليمن، لكن خصومه غير متفقين معه ويعدون العدة لشطر اليمن، بعض هؤلاء الخصوم كانوا حلفاء له بالأمس مثل طارق الفضلي، الذي كان قياديا في حزب المؤتمر الحاكم، وبعضهم ممن خسر مواقعه ونفوذه الذي كان في اليمن الجنوبي القديم، وكل هؤلاء يتكئون على مشاعر سخط لدى الجنوبيين عبرت عنها سلسلة مظاهرات غاضبة في بعض مدن ومحافظات الجنوب، مثلما حدث في (المكلا).

الوضع خطير، وما لم يتم مساعدة اليمن فإن الأمر منذر بالأسوأ، وستصبح عمان والسعودية جارين لصومال آخر، أقرب هذه المرة!. ربما يكون الحل في الدعوة لمؤتمر مصالحة وحوار صريح بين الخصوم ترعاه السعودية وسلطنة عمان، ربما، أو تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي، باعتبار المجلس أقرب المنظمات الإقليمية لليمن، وأكيد بالتعاون العربي والدولي. يجب البدء بخطوات لإنقاذ اليمن، بداية من إجراء مصالحة وطنية وربما توسيع سلطات الحكم الذاتي لدى بعض الأقاليم والبدء بمشاريع إنمائية كبرى تنعش الآمال وتضعف لغات الانفصال، فالمصالح المشتركة هي صمغ العلاقات.

لن يحتمل الجميع، وفي مقدمهم دول الخليج، تردي الأوضاع السياسية والأمنية أكثر في اليمن، والرئيس صالح ـ بخبرته ـ ربما هو الذي يمد يد المصالحة لخصومه من أجل يمن ليس محسوبا على أحد، فاليمن محسوب على اليمن فقط، كما قال رئيسه.

[email protected]