تفجيرات بغداد.. من المسؤول؟ ولماذا؟

TT

مرة أخرى يعود العنف إلى بغداد ومناطق أخرى من العراق، بعمليات مؤذية تعيد إلى الأذهان ما حصل في أعوام الحصاد البشري، ويجعل المصطلح الأميركي «هشاشة الأمن» واقعا، ويهز الثقة في قدرة العراقيين على ضبط أمورهم بعد تخفيف الوجود العسكري الأميركي المرتقب. فمن المسؤول عما يحصل؟ ولماذا؟ اتهم مسؤولون إيرانيون القوات الأميركية، انطلاقا من نظرة المرشد إلى الشيطان الأكبر، لا سيما وقد قُتل عدد من الزوار الإيرانيين في تفجيرات بغداد وديالى الأخيرة، ووجهت وزارة الداخلية العراقية الاتهام إلى تنظيم القاعدة، ورجع رجال دين السبب إلى مد اليد إلى البعثيين وحتى الابتسامة لهم، وإلى إطلاق سراح آلاف المعتقلين. أما الجنرال بترايوس القائد العام للقيادة المركزية الأميركية فرجح أن يكون ما حصل بفعل إرهابيين قدموا من تونس. ولم تكن إيران خارج دائرة الاتهام. هكذا هي الاتهامات، والضحايا عراقيون، والمطلوب وحدة العراق ووجوده.

واقعيا، حصل تضاؤل كبير في معدلات العنف. وتراجعت النشاطات المسلحة من 200 هجمة مناوئة للسلطة وقوات التحالف.. يوميا، إلى أقل من عشر هجمات خلال المرحلة الحالية، وأصبحت طرقات العراق مفتوحة أمام التنقلات المدنية والعسكرية، وتقلصت حالات منع التجول إلى حد التلاشي، مما فتح الأبواب لتخطي مرحلة العسر الدامي. إلا أن العمليات الدامية لم تتوقف، ولم يعد الانتحاريون مسوقين من خارج الحدود، حيث استنسخت الظاهرة عراقيا لأول مرة في تاريخهم.

من يراجع تاريخ البعثيين لا يجد تنفيذهم عملية انتحارية واحدة، ولم تسجل عليهم في فترة ما بعد 2003 عمليات استهداف عام للمدنيين، وربما كانت نشاطاتهم المسلحة أقل تأثيرا بعد تفكيك «جيش محمد»، الذي شكّله صدام بعد سقوط النظام. لكن هذا لا ينفي ولعهم بنظرية المؤامرة والعمل السري. لذلك فتوجيه الاتهام إليهم لا يستند إلى معطيات يعوَّل عليها، واستهدافهم، كأفراد، من قِبل بعض الجهات الدينية يصب في مجرى مضاد للمصالحة الوطنية، ويتسبب في المحصلة في إضافة تعقيدات أمنية جديدة طويلة الأمد. وهنالك ملاحظة مهمة، تتعلق برغبة عناصر متشددة في إفراغ العراق من البعثيين، وهو حلم لا يمكن تحقيقه. قد يكون تفسير الجنرال بترايوس مستندا إلى معلومات محددة، إلا أن تفجيرات الكاظم نُفذت من قِبل امرأتين، وفقا لما أعلنه مسؤولون عراقيون، وهي حالة لم تكن فريدة، فقد سبقتها حالات مماثلة في ديالى ومناطق أخرى، فاق فيها عدد الانتحاريات الانتحاريين في مرحلة ما. والنسوة من أكثر الشرائح تضررا مما حصل، فوجود أكثر من مليون أرملة وأكثر من مليونين ونصف مليون طفل يتيم يولد إحباطا ويأسا كبيرين، إن لم يجر التوصل إلى حلول ناجعة للمعضلة، خصوصا من الناحية المعيشية. ومهما كانت وجهة النظر الأميركية فإن الحالة أكثر تعقيدا من نسبها إلى بضعة أشخاص تونسيين، لأن هؤلاء ما كان بمقدورهم تنفيذ شيء ما، لو لا وجود عناصر الدعم والتخطيط والتوجيه المحلية، ضمن سلسلة لا يمكن تبسيطها.

كان، ولا يزال، للدور الإيراني أسوأ الأثر على الوضع الأمني في العراق، ومن مشكلات الأميركيين أنهم لا يكشفون قدرا كافيا مما لديهم من معلومات عن ذلك، لأسباب قابلة للاجتهاد والتحليل. وقد رجحت مسألة المصالح أمام المواقف العقائدية في فهم طبيعة الروابط بين فيلق القدس الإيراني وتنظيم القاعدة، كما أن من غير المنطق افتراض التزام القاعدة بالنهج المحدد للفيلق كليا. فالطرفان يتحركان ضمن دائرتين متجاورتين، كلما اقترب مركزاهما ازدادت فسحة التلاقي والتنسيق بينهما. ومن هنا يمكن فهم التلاقي والتناقض في عمليات تفجير مراقد سامراء، التي دفع العرب السنة إثرها آلاف القتلى، وتفريغ مناطق كبيرة من بغداد من أهلها. وكذلك التفجيرات الأخيرة التي ذهب ضمن ضحاياها زوار إيرانيون. ولسوء حظ المعنيين فقدت المقاييس الإنسانية والأخلاقية في فهم شبكات التآمر. وبعد كل ما حصل، هل يفهم المعنيون من المسؤولين الإيرانيين المثل القائل إن من يزرع الشوك لا يقطف الورد؟

لا شك في أن القاعدة تلقت ضربات قوية في العراق، ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى ثورة أبناء العراق من الصحوات، مع عدم تجاهل دور قوات التحالف والقوات العراقية في المؤازرة والتحرك. إلا أن من الخطأ الفظيع إعطاء انطباع بنهاية القاعدة كليا، فما أسسته من حلقات وخلايا، رغم مساوئها وإجرامها، ليس ممكنا تفكيكه كليا خلال فترة وجيزة. فالسلاح والعتاد متوافران بكثرة في العراق، وتصنيع المواد المتفجرة ممكن ولو بطرق بدائية، والتهريب عبر الحدود قائم. والتغلب على هذه المعضلات يتطلب جهدا كبيرا ومتواصلا، مع حتمية إزالة أسباب الخلافات الداخلية، ووضع حد لعناصر ديمومة السلبيات التي يصر عليها أصحاب عقول ضيقة.

وليس معقولا ولا منطقيا الإبقاء على عشرات آلاف المعتقلين من دون حل، فكلما شعر الناس بالظلم، بصرف النظر عن وقوعه أم لا، انتقلت النقمة من فرد إلى آخر، وتحول هؤلاء وبعض ذويهم، إلى عناصر انتقام، ما يؤدي إلى إطالة زمن الأزمات وتراكم الخسائر.

وكلما حصلت عمليات دموية توجهت الأنظار إلى الصحوات بدعوى اختراقها من قِبل البعثيين وتنظيم القاعدة، وهو تصور إذا ما أخذ به شموليا، ستكون له انعكاسات ضارة، فغالبية هؤلاء مارسوا القتال في هذا الخندق أو ذاك، ويمثلون قاعدة شبابية لا ينبغي ركنها، فيما كان آخرون قاعدين لا يجيدون غير التخفي في زمن تصاعد العنف.

تبقى المصالحة الوطنية أهم ركن من أركان إعادة الاستقرار إلى العراق، ولا ينبغي التوقف كثيرا عند انتقادات أطراف متطرفة، توجه إلى كل من يتقدم خطوة نحو المصالحة. والمصالحة بين رجل دين سني أو شيعي يحتل موقعا معينا لا تعني شيئا ولا تقدما، بل تلك الخطوات الواسعة والواثقة التي تصد عن الطروحات الضيقة والأنانية واللونية، وتعيد ربط العراق بمحيطه العربي حتى لو تكررت الخطوات.

[email protected]