هل الكاتب محذوف الحق والرأي..!

TT

«ينبغي لمن يكتب ألا يكتب إلا على أن الناس كلهم له أعداء. كلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له» (كتاب الحيوان). نصيحة الجاحظ (ت 255هـ) هذه، نافعة في فن الكتابة، واختيار العبارة، وعدم الركض وراء الألفاظ قبل المعاني، والبعد عن الكتابة المقعرة! ونافعة لأسماء انتهى جديدها وجيدها، وظل غرورها طافحا باجترار قديمها!

أما التعبير عن الرأي، فإذا تجنب الكاتب ما يراه ويظنه، كي لا يزيد الأعداء وينقص الأصدقاء، فلا أرى هذه الوصية حجة على محاولة الحياد والإنصاف، في قضية ملتهبة مثل قضايا العراق، كون كل ما حبرته في «الشرق الأوسط» كان عراقيا سوى النوادر. كتب الصديق مشاري الذايدي مقالا، على صفحات هذه الجريدة، جمع فيه شكواه من القراء، حتى صرخ متألما من دكتاتوريات القارئين: «أليس لي الحق برأي»! فما أن تكتب في قضية ما إلا وأتتك الرسائل حاملة أحجار السجيل! ومع ذلك كم بودي تقديم العرفان لمن بعث لي برسالة التهديد، قصاصا على ما كنت أكتبه في جريدة «صوت العمال» العدنية، فتلك الرسالة سهلت لي الدخول إلى بريطانيا دخيلا عند قبائلها، التي أجارتني وأنعمت عليَّ، وعلى الألوف المؤلفة، بالحرية والخبز الحلال، ووقتني من تصعير الخد! فبعد الوحدة اليمنية حوصر العراقيون هناك بين أمرين: الخروج من الوظيفة، أو تقديم الطاعة لدى سفارة البعث بصنعاء!

ما كتبته في «الشرق الأوسط»، بداية من 1993 متقطعا بين آن وآخر، ثم المواظبة أسبوعيا في الأربعائيات، كان خلاف ما اعتقد القراء الراغبين في مصادرة الرأي، أنه لم تحذف مما كتبت كلمة، ولم يُغير لي عنوان، ولم يُطلب مني الكتابة في حدث ما، إلا ثلاث مرات: يوم أذيع خبر إلقاء القبض على عزت الدوري، أثناء وزارة أياد علاوي، وطُلب أن يكون جاهزا خلال نصف ساعة، فطلبت ساعة! وفي اليوم الثاني وردتني رسالة عنيفة شامتة! لكن خف عليَّ، لما ظهر رئيس الوزراء، وسُئل عن ضماد يده، فقال بما معناه: عصبية على مَنْ أخبره بقبض الدوري، وظهر خلاف ذلك!

وأحسبها شهادة لعلاوي، مما كيل له من تُهم، من أنه يُريد عودة سلطة البعث، وبذلك يشطب كل ما فعله من أجل إسقاط تلك السلطة! أقولها مع أني لم ألتق بعلاوي لا في معارضة ولا في سلطة. والثانية كانت يوم تفجيرات لندن (تموز 2005)، وقد استدعيت إلى الجريدة، وطُلب مني المساهمة في العدد الخاص بالحدث، وكتبت مقالا: «لندن.. هل غادرتها الدلافين»، كتبته ومسؤول صفحات الرأي قائم على رأسي للاستعجال. والثالثة كانت ملفا لرد تشويه الموسوعة البريطانية باستحدث البلدان المسلمة لغيتوات اليهود، وقد شاركني الأديبان الجديران مير بصري (ت 2006)، وسمير نقاش (ت 2004) تحت عنوان: «بغداد لم تعرف الغيتو»!

وصلتني عشرات الرسائل، ومنها ما كشفت لي مصائر أقارب وأصدقاء الصبا، إلى أي البلدان كانت هجرتهم، القديمة والجديدة، ومنها رسائل مديح وذم لمقال ما، واكتشفت أن مرسلا واحدا بعث الشتم لمقال والثناء لآخر! وأحدهم علق على مقالة «بغداد.. أي مفاتيح سلمها ابن العلقمي» بما يعف عنه اللسان! وآخر اعتبر مادة «يا شيعة العراق.. الأحزان لا تُعمر الأوطان» كُتبت بصفقة مالية!

لكن، ما أعتز به أن ماكتبته أوصلني بالمؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، عبر رسائل ظنني فيها من جيل مصطفى جواد(ت 1969)، أو حسين محفوظ (ت 2009)، فالبحث بتشابك الأزمنة يوهم بالشيخوخة. كذلك أعتز بما قرضه الإعلامي والوزير السابق الأردني صالح قلاب من مقالات لي، على صفحات جريدة «الرأي» الأردنية. والأجمل أن حدث هذا بلا سابق معرفة شخصية بكليهما، لا من قبلُ ولا من بعدُ. وأعاد ما كتبته في «الشرق الأوسط» وشائج الصداقة، بعد ابتعاد، بالأكاديمي والسياسي فؤاد معصوم، وقد عرفته عبر «إخوان الصفا»، وعرفني عبر «المعتزلة».

أقول: ليس الكاتب محذوف الحق وخصاصة الرأي، ولا شأن له إلا مرضاة الجريدة والقراء! بل لا أظن أن الجريدة تحترم الكاتب إذا كان كما رسمت شبهات القراء، وقصده أبو تمام (ت نحو 231 هـ): «وتنتقل من معشرٍ في معشرٍ .. فكأن أمك أو أباك الزئبق»! هذا، وتبدو وصية الجاحظ للكاتب «على أن الناس كلهم له أعداء» مخيفة مفزعة حتى تسقط الأقلام من الأيدي: لماذا كتبَ هذا، وأين كتبه! وهل خوف أفزع من الرقابة في الحِل والترحال! وكم ستكون التهم جامحة بالخيال، إذا ما حاولت استحضار ما يمد الجسور، بعد هدها، بين مذهبي أهل العراق! وهذا ما وفرته «الشرق الأوسط» بلا منةٍ!

[email protected]