تفاؤل متشائل

TT

قد تتمكن إسرائيل من تمرير أطروحتها، رغم تعقيد الأوضاع التي تجابهها، وهي نظريا غير مواتية لها، وذلك بجر واشنطن إلى تغليب حسابات تكون من الكبر والشمولية ما تبدو به «قضية النزاع العربي الفلسطيني» مجرد بند يمكن ترتيبه الرابع أو الخامس، بالقياس إلى «تحديات أكثر حيوية» في الحسابات الأميركية في المنطقة.

وهناك عناوين كبرى لقضايا أثيرة عند الولايات المتحدة، يمكن أن تجعل خارطة الطريق، ومقولة الدولتين، وتوسيع المستوطنات، مسائل مؤهلة للتأجيل، ريثما يتم التعامل بكيفية لائقة مع ما هو أهم وأكثر استعجالا.

أي ستطغى أجندة مشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وسنسمع فيما بعد عن رؤية أوباما بعد رؤية بوش. وقد يساعد على ترتيب الأولويات غيبة عمل العرب كمجموعة، وانفراط صفوف الفلسطينيين، مما سيسهل عودة الانسجام بكيفية حميمية بين تل أبيب وواشنطن. أي أن إسرائيل وهي متلبسة بموقف لا يقرها عليه حتى أكبر حاضنيها، قد تتمكن من نقل الضغط الواقع عليها إلى نحر خصومها.

حينما أفكر في الأطوار التي تجتازها القضية الفلسطينية هذه الأيام تتنازعني هواجس تفاؤل متشائل. وأما التفاؤل فمصدره الإيمان الراسخ بأن قضية عادلة مثل هذه لا بد أن تجد لنفسها مخرجا نحو الخلاص. وأما التشاؤل ـ وليرحم الله مبدع الكلمة ـ فمرجعه هذا التخبط الذي طال وأصبح يوقعنا في الحيرة.

إن الشعب الفلسطيني يعاني من مرارات التشريد، ويتعرض للكثير من التجني، وما فتئ منذ عقود يؤدي ثمنا باهظا، لمجرد أنه لا يقبل أن يتنازل عن حقه في العيش الكريم في حظيرة دولته الوطنية مثل بقية الشعوب.

وقد مر ما يكفي من الوقت ليثبت أن الفلسطينيين ـ كما كان يقول أبو عمار ـ ليسوا مثل الهنود الحمر، الذين فرض الرجل الأبيض تصديق أن ما تعرض له هؤلاء علي يديه من إبادة كان مصيرا كانوا يستحقونه لأنهم كائنات غير عاقلة.

إن الشعب الفلسطيني قد أبان عن قدرة خارقة على الصمود، من خلال مسيرته الطويلة التي تدل على إرادة صلبة وعزم على اكتساب حقوقه العادلة. والحقوق تدرك بحسن التدبير، وبالنجاعة في طرحها. وبهذا وذاك يتحقق تفهم العالم وتأييده.

وقد وقع بالفعل أن المجتمع الدولي وقف برمته إلى جانب الفلسطينيين ضد الولايات المتحدة حينما قررت منظمة الأمم المتحدة أن تنقل اجتماعا للجمعية العامة من نيويورك إلى جنيف، بعد أن امتنعت الدولة المضيفة عن منح تأشيرة الدخول إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وسجل التاريخ أن شعبا ضعيفا محروما من مقومات الوجود كانت كفته إذ ذاك راجحة في الميزان، بالقياس إلى أكبر إمبراطورية ظهرت في تاريخ البشرية.

وما أكثر ما سجلت محاضر الأمم المتحدة توصيات لفائدة الشعب الفلسطيني، صودق عليها بإجماع دول العالم، في مقابل صوتين اثنين فقط هما للولايات المتحدة وإسرائيل، وأحيانا كان ينضم إليهما التشيلي في عهد بينوشي، وجنوب أفريقيا أيام نظام الأبارتهيد.

ومنذ ذلك التاريخ حتى المصافحة التاريخية في حديقة البيت الأبيض، صفق العالم دائما لمبدأ الدولتين، أي بالتسليم بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم الوطنية وعاصمتها القدس الشرقية. ومنذ استلام الفلسطينيين لمقاليد قضيتهم، وطرح تلك القضية في إطار واضح وصارم، تزايد عدد المتفهمين في العالم لعدالة قضيتهم، وتعمقت عزلة إسرائيل، وتكرس الانقسام في حظيرة المجتمع الإسرائيلي، بشأن مستقبل دولته في المنطقة، وبشأن هويتها ومصيرها. وفي وقت من الأوقات أصبح لمعسكر السلام صوت قوي، وأصبح هناك من الإسرائيليين من يجازف بحياته من أجل نصرة الفلسطينيين، بالتضامن مع الأسرى، وإعلاء راية حقوق الإنسان، واستنكار الجدار الفاصل، والنزول جنبا إلى جنب، مع الفلسطينيين في أراضي 1948، وفي الضفة الغربية، من أجل المطالبة بحل عادل ودائم، يفرز وضعا مقبولا من لدن الطرفين.

ولكننا نرى الآن أنه شتان ما بين السبعينيات والثمانينيات، وبين ما هو حاصل اليوم، حيث تشجعت إسرائيل على الاستمرار في التماطل في الامتثال للمشروعية الدولية، والتنكر للاتفاقات التي يتم التوصل إليها مع الطرف الفلسطيني، بمباركة من العالم أجمع، بل إنها تتشجع لعرقلة مسلسل التفاوض بكيفية سليمة.

وهذا المآل له سببان. الأول هو أنه لا يوجد في إسرائيل مشروع يحظى بالنصاب الكافي من التأييد يقوم على أساس التعايش في ظل منطق «الدولتين». ولهذا نرى الانتخابات الإسرائيلية تفرز في الغالب خريطة سياسية مرتبكة، لا تحسم في اختيار السلام. بل إنه كلما لاحت بارقة أمل في تسوية ممكنة جاءت انتخابات مبكرة لتبطل ذلك التوجه، وتعود الأمور إلى نقطة الصفر. وهذا هو ما نشهده حاليا. ويتكرر ذلك منذ مؤتمر مدريد حتى خارطة الطريق.

وهذا الأسلوب الإسرائيلي في إفساد مسلسلات التسوية الممكنة، وعرقلة أي توجه إلى تفاوض معقول، وخلق الصعوبات من كل نوع، يجدد في كل مرحلة إنتاج التوتر، وتأجيج المواقف الراديكالية من كل جانب، وزرع قنابل موقوتة في أنحاء كثيرة من العالم، بحكم شساعة رقعة الأقطار المعنية بتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، حيث تعيش شعوب لا تقبل أن يستمر الشعب الفلسطيني وحده مستثنى من حق العيش في دولة وطنية قابلة للعيش.

إن السياسة العدوانية التي يسلكها الساسة الإسرائيليون هي المسؤولة عن التصعيد الخطير في الأفكار والمواقف الراديكالية، وهو تصعيد مؤهل للاستمرار والتجدد إلى ما لا نهاية.

ومن جهة أخرى، يوجد سبب ثان لتعثر إيجاد مخرج آمن لسلام مقبول، أي عادل وقابل للدوام، وهو أن كفة الفلسطينيين في موازين القوى قد لحقها اختلال في السنوات الأخيرة، بسبب انفراط الالتحام الوطني، الذي ميز المسيرة الفلسطينية في عنفوان الانتصارات المعنوية الكبيرة، التي أشرنا إلي بعضها فيما سبق، حيث حققت القضية الفلسطينية مدا متعاظما كقضية عادلة، وراءها شعب موحد.

وكما ضعفت كفة الفلسطينيين في ميزان القوى، لحق الضعف الموقف العربي بوجه عام، إذ انشغل العرب بأمور كثيرة جعلت «القضية الأولى» تنزل درجات في سلم الأولويات، وأصبح رائجا أن جدول أعمال العرب لم يعد يتضمن تحرير الأراضي المحتلة، كما أن الفلسطينيين كفوا عن العمل بانضباط وإحكام كما كان الشأن فيما قبل.

وبعد أن كانت حركة فتح، ومن بعدها منظمة التحرير، قد منحت الفلسطينيين وجدانا موحدا، لا يصرفه أي اعتبار آخر عن فلسطين أولا قبل الإيديولوجيات وقبل الولاءات، استيقظت في الصف الفلسطيني منذ عقد ونيف وساوس التفرقة، وعادت فلسطين من جديد فلسطينات، وأصبح المشروع الوطني الذي كان يتآلف حوله الشعب الفلسطيني موضع شكوك ومراجعة، وكأنما يجب اختراع فلسطين من جديد. إن الإشعاع الكبير الذي تحقق للقضية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي وفي المجتمع الدولي قاطبة، لم يحدث صدفة ولا فجأة، بل إنه كان نتيجة تدبير سياسي ناضج، وتطلب سنوات من البناء الصبور. ووقع التفريط في كل ما سبق من تضحيات، ووصلنا إلى ما نحن فيه الآن.

غير مقبول أن يوجد فلسطينيون يغوصون في ترف الاختلاف على «سلطة» هي ليست في يد أي منهم. إذا استمر الوضع هكذا، ستظل الأطراف الفلسطينية تدور حول نفسها في لقاءات القاهرة مع الجنرال سليمان وخلفائه فيما بعد. وستظل إسرائيل لا تقبل الحوار إلا حول فتح الممرات أيام الاثنين أو الخميس.