بئس مائدة البخيل!

TT

إنها مائدة البخيل. ما أشقى المرأة التي تقضي حياتها مع زوج بخيل، وما أشقى الضيف الذي يتناول غذاءه على مائدة مضيف شحيح. كان من أروع ما قرأته من المعاناة عن تناول الغذاء مع رجل بخيل، ما كتبه أبو نصر بن أبي الفتح المعروف في دنيا الشعر والشعراء بكشاجم. له أشعار كثيرة في ذم البخل والبخلاء، ولكن هذا الوصف القصصي جاء من أبدعها في التصوير والتعبير:

صديق لي من أبرع الناس في البخل

وأفضلهم فيه وليس بذي فضل

دعاني كما يدعو الصديق صديقه

فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي

فلما جلسنا للطعام رأيتـه

يرى أنه من بعض أعضائه أكلي

ويغتاظ أحيانا ويشتم عبده

وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي

فأقبلت أستل الغذاء مخافـة

وألحاظ عينيه رقيب على فعلي

أمد يدي سرا لأسرق لقمة

فيلحظني شزرا فأعبث بالبقل

إلى أن جنت كفي لحتفي جناية

وذلك أن الجوع أعدمني عقلي

فجرّت يدي للحين رجل دجاجة

فجرّت كما جرت يدي رجلها رجلي

وقدم من بعد الطعام حلاوة

فلم أستطع فيها أمر ولا أحلي

وقمت لو أني كنت بيّنتُ نية

ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل

وهو ما يذكرنا بذلك الضيف الذي جلس يتناول الأكل مع رجل بخيل قال له: «دونك يا أبا عبد الله فهناك شعرة على هذه اللقمة التي تهم بأكلها». فرمى الضيف باللقمة على الخوان وقال له: «كل الوقت وأنت تراقب ما آكل بحيث ترى الشعرة على اللقمة! لعنة الله علي إن أكلت معك بعد اليوم!».

من أشقى معاناة الطعام أن تشم رائحته وحياض الموت بينك وبينه، وهو ما عبر عنه شاعر آخر حين قال في صديقه أبي نوح:

أبو نوح أتيت إليه يوما

فغداني برائحة الطعام

وقدم بيننا لحما سـمينا

أكلناه على طبق الكلام

فلما أن رفعت يدي سقاني

كؤوسا حشوها روح المدام

فكنت كمن سقى الظمآن ماء

وكنت كمن تغدى في المنام

وفي كل هذه الأشعار تحذير لكل من ابتلي بالحرص والبخل وضيق اليد. لا تدعو شاعرا لبيتك ولا تتبجح بسرقاتك. وانغماس الشعراء العرب في تسجيل كل ذلك في قصائدهم وهجائهم للبخلاء نوع في الواقع من الجوعيات التي تؤكد على معاناة الفقر والجوع اللذين عاشهما الفرد العربي منذ أقدم عصور التاريخ وما زال أكثرنا يعيش فيهما. والعجيب في الأمر أن يجري كل ذلك بين أبناء الطبقة المتوسطة المتعلمة التي نفترض فيها أن تكون موسرة، أو مكتفية على الأقل.