شاعر ورث حزن الآباء

TT

دعوني أتورط وأستخدم مصطلحا لا أحبه حتى أجد غيره، فأنا مؤمنة بعبقرية الشاعر عماد أبو صالح، المولود في قرية من قرى مصر عام 1967، ذلك العام الذي فضحت هزيمته الأكاذيب وكل أنواع الزعيق.

يمتلك عماد أبو صالح تلك القدرة الفائقة في التعبير الجميل عن كراهيته لـ«الحياة». أنا لست في خندقه، بل وتؤلمني رؤيته المتكدرة المكدرة، فهو يرى «الحياة» مرضا لا شفاء منه إلا بأمل الموت. رؤية تشدني من اكتئابي فأذهب إليها، مؤقتا، لأضحك. كتبت عنه في مجلة «الهلال» الشهرية يناير 1997، أدافع به عن تهمة فقرنا في الشعر، إذ رأيته شعاعا من شمس شعر تشرق.

قلت عنه: «ساخر، مر، منفعل تحت التحجر والبرودة، في سكون يطبق شفتيه على موال طويل ينوح بداخله، ينعى الكدح المقهور تحت الجلابيب المنتفخة بالهواء، بالفراغ، في قرفصائه يحاول بكفه أن يحتمي من هجير عصر صيفي..». كان ديوانه يحمل عنوان: «كلب ينبح ليقتل الوقت»، وكان عماد أبو صالح وقتها على مشارف سن الثلاثين. هو الآن على مشارف الثانية والأربعين، لا يزال يطبع شعره طبعات خاصة على نفقته، أهداني منها: «جمال كافر»، طبعته الأولى 2005، وغلافه بريشته لرسمة عنوانها «العاشق..»، رشيقة الفكرة تختزل بخطوطها المختصرة الشوق المحروم الفاغر فمه ليتلقى قطرات الوهم. رسمة تسحبك بالابتسامة إلى النكد المقيم، الذي لا يحرص عليه الرسام/الشاعر، لكنه مجبر على الاعتراف بإثبات نسبه إليه.

مع «جمال كافر» كان كتابه «مهندس العالم»، الذي أصدره عام 2002، ملحق تفسير لقصائده البليغة الجميلة المنتحبة. يقول في الصفحات الأولى منه: «كتاب أشعاري الرابع اسمه (أنا خائف)، أخاف فيه من أصدقائي وأعدائي والمرض والماضي وصباح غد ونفسي أنا نفسي، ومن كل العالم. لي خمسة كتب وأخاف، لا أزال، من الكتابة.. لا أعرف لماذا أخاف الكتابة؟ ألأنها تتغذى على أعز ما فيّ؟.. هل لارتباطها بالمدرسين غلاظ الأكباد، ولجان الامتحانات، والمراقبين بعيونهم البوليسية، ورعب السقوط آخر العام؟ هل لارتباطها بالأفندي؟ بسلطة قميصه وبنطلونه على أعمامي أصحاب الجلابيب؟ أي مسخرة في أن أكون كاتبا، وأمي في البلد هناك تخطيء كل مساء في عد إوزاتها، وأبي يضع للفاء نقطتين وللقاف نقطة واحدة؟ سأسكت؛ حين أكتب أفضح نفسي. ما أجمل الصمت، ما أجمل البياض، قبل أن يتوسخ بحبر الكتابة. أنا أكره الكتابة..». عماد أبو صالح في هذه الكلمات مثلي تماما، صادق وكاذب، فلقد عبرت قبله عن كراهيتي للكتابة، ثم أسميت علاقتي بها علاقة حب/كراهية. هو صادق في التعبير عن الخجل أو العجب من تلك الهوة بينه وبين أمه ووالده الأميين، لكنه لا يقصد تماما الهوة الخاصة به شخصيا، إنها الهوة الأكثر فجاجة وقسوة، الهوة بين دائرة المثقفين وسائر شعبنا الذي ليس في حسبان أحد، لكن عماد أبو صالح كاذب بالقطع في ادعائه كراهية (الكتابة)، وإلا لما بذل كل هذا المال والمجهود ليطبع ويخرج لنا «أمور منتهية أصلا» ـ 1995، «كلب ينبح ليقتل الوقت» ـ 1996، «عجوز تؤلمه الضحكات» ـ 1997، «أنا خائف» ـ 1998، «قبور واسعة» ـ 1999، «مهندس العالم» ـ 2002، ثم «جمال كافر» ـ 2005، الذي يقول في سطور من قصيدته الأولي: «.. عمي بنته البلهارسيا، أمي ملكة شعب الدجاج، أبي، آه من أبي، رباني بكل خبرته، في تربية البهائم». مرة أخرى، إنه لا يقدم عائلته الشخصية، إنه يلخص خريطة السكان في بلادنا العزيزة، بلاد القرى والنجوع المهمشة، والعشوائيات المحيطة بالمدن المدللة، ناتج محاولة المهمشين الهروب من قراهم المهمشة، فحجزتهم (المدينة) على أطرافها التي تكنس إليها نفاياتها.

في قصيدته الرائعة (عيناك) يقول: «كلام مضحك جدا، هذا الذي يقوله الشعراء، في العيون، لو كانتا طبقي عسل، سيعيش الذباب فيهما، لو نافذتان من الليل، سترشحان دموع الأطفال، المرعوبين من الأشباح في الظلام، لو بحيرتان زرقاوان، ستعوم فيهما جثث الغرقى، ويفقؤهما الصيادون بسنانيرهم، لو شجيرتان خضراوان، سيتعشى بهما خروف صغير، هكذا يمكن لأي شاعر مبتدئ اليوم، مسخرة هذه الرومانسية الزاعقة، أنت عيناك قاذفتا قنابل، ورموشهما متاريس، حاربي لأجلنا، اصطادي بهما اللصوص والقتلة، وأقيمي العدل في العالم، ما عاد يجب أن نخجل، نحن الرجال، من أن نختبئ خلف امرأة».

هذا هو شاعرنا عماد أبو صالح، الابن الحلال لعام 1967، ذلك العام، وأكرر، الذي فضحت (نكسته) الأكاذيب وكل أنواع (الزعيق)، وأهدانا الجيل الذي لم يعد يرى في (الحياة)، بعد ذلك سوى (المرض)، مرض (الإصابة بميراث حزن الآباء)، منذ ذلك الأمس عام 1967، الجاثم حتى الآن بوطأته، يضع أعماله المؤجلة فوق أكتاف وأعناق اليوم والغد!