انتخابات قذرة

TT

الانتخابات النيابية اللبنانية مخجلة بكل المقاييس، بدءا من عنوانها «الديمقراطي»، «الحر» الذي يتعارض، كليا وجذريا، مع مضمونها العشائري الطوائفي المتخلف، وانتهاء بنتائجها المنتظرة التي تدّعي قدرتها على التغيير، وهو أبعد ما تستطيعه! فمن أين يأتي التغيير ما دام صناع الحرب الأهلية لا يزالون يتسيدونها، وأبطال الأحداث الجنائزية التي تبعت وفاة الرئيس رفيق الحريري هم المتنافسون على حصادها. وسيذهب زيد ليأتي عبيد. وكلهم من دون تفرقة ـ باستثناء من لا سلطة له ولا مال ـ يتبعون أبخس الطرق وأكثرها دناءة للحصول على أكبر عدد من الأصوات. فالماكينات الانتخابية (انتبه لخساسة التسمية) التي تتكون من مئات آلاف الأشخاص ـ يجند كل واحد منهم مقابل 150 دولارا أو 200 دولار لخدمة الزعيم ـ يحدثك أفرادها في السر عن فضائح مخزية. أحدهم، وينتمي إلى ماكينة حزب كبير منتشر في كل المناطق، صعقني وهو يخبرني بأنهم قاموا بعمل جردة للبيوت والأشخاص، وأنهم جمعوا، كل في منطقته ـ من خلال الاستقصاء ـ معلومات دقيقة عن كل ناخب مذكور على لوائح الشطب، وميوله السياسية وأهوائه الشخصية. عمل مخابراتي من الطراز الرفيع. ولا فرق بين ما قام به مناصرو هذا الحزب، ومخبرو أي نظام ديكتاتوري، سوى أن الأخير يعاقب من لا يأتمرون بأمره على السريع، فيما الحزب الديمقراطي اللبناني العصري، يؤرشف المعلومات وينام على السجلات، بانتظار أن تحين الفرصة المناسبة ليثأر. شخص آخر، رضي أن يتحول إلى برغي في «ماكينة» انتخابية، لكنه من حزب مختلف، يعترف بأن زعيمه ليس من القوة، بحيث يتمكن من جدولة اللبنانيين عن بكرة أبيهم، لذلك يكتفي على سجلاته بتقسيم أهل منطقته المرشح فيها، إلى «غير موالين» لأنه لم يسدِ لهم خدمات مسبقة، و«أصدقاء» بسبب خدمات أسديت لهم ويحاول تذكيرهم بها وحثهم على انتخابه، وهناك فئة ثالثة هي «العصب». وهذه الفئة الأخيرة، تتكون من عائلات أعضاء الماكينة الانتخابية، التي تستدعى للتصويت قبل إقفال الصناديق فقط، والتأكد التام من أن لا تلاعب يمكن أن يحدث، كي يدلوا بأصواتهم المضمونة، للمرشح العظيم الذي لا يفوت. وغالبا ما يعمد الزعيم إلى توزيع أسماء الأشخاص المفترض أنهم أنصار أو موالون على أفراد الماكينة. ولدى كل فرد مجموعة، عليه أن يطاردها كي تنتخب، ولو اقتضى الأمر الذهاب إلى بيوتهم وإحضارهم بالتي هي أحسن.

هذه بعض الوسائل «الديمقراطية» و«الشفافة» المتبعة لإجراء انتخابات «حرة» و«نزيهة» تستحق التغني بها. وقد بلغ التفنن في خداع الناخبين، حيلا لم نكن نسمع عنها قبلا، كأن يستأجر المرشح أشخاصا بالجملة ينشرهم في الأسواق والمؤسسات والدوائر، ويبثهم بين العباد، مهمتهم الترويج للمرشح بين الزملاء والأصدقاء، بافتعال أحاديث تلقائية معهم، ليس لها غاية سوى إقناعهم بالتصويت لصاحب المناقب التي لا تضاهى.

وقد يظن القارئ أننا نتحدث عن قصص سوريالية أو أوضاع افتراضية، لكن الواقع فاق الخيال نزقا وفحشا. وكل هذا يحدث في ظل قانون انتخابي صارم، يضبط الإنفاق، ويحدد سقف الدعاية. ووزير الداخلية، كما الهيئة المشرفة على نزاهة الانتخابات، يسهرون ليل نهار على إحقاق الحقوق. لكن شطارة الزعماء اللبنانيين، تغلب أعتى القوانين وتحطمها، بقدر ما تحرض المواطنين على الكذب والنفاق. ويتحدث المواطنون عن أموال حصلوا عليها، وأخرى وعدوا بها، وكله من تحت الطاولة، فيما يوقعون على السطح أوراقا يتعهدون فيها بأنهم يقدمون خدمات انتخابية تطوعية غير مدفوعة الأجر، كمستندات تقي الزعيم محاسبة قضائية تبطل فوزه. ومن ضمن الرشاوى موبايلات وأرقام هاتفية، وإسقاط دعاوى، وتسهيل معاملات عالقة. وما يحزّ في القلب، أنه كلما علا شأن الزعيم وكبر مقامه، ازدادت حنكته وقدرته على رجم هيبة الدولة. والجهات الراشية من ضمنها وزراء ونواب وزعامات وهامات، مما يجعلك تتعجب كيف أن دعاة «الحرية» من فريق 14 آذار الاستقلالي، الذين أصاخوا آذاننا بحبهم للبنان و«قيام الدولة القادرة» فاعلون أساسيون في صناعة هذا النتن القاتل لأي حلم بقيام دولة. و8 آذار الذين يتهمونهم بالفساد، هم شركاؤهم الذين لا يقلون عنهم ابتكارا لأساليب تهين المواطن وتحط من قدره. وقد تقول إن المشكلة في الناس، الذي لا ينتفضون على المهانة، وهذا صحيح. لكن كيف يثور المواطن وزعيم الطائفة المقتدر، هو الذي يؤمن له الوظيفة والطبابة والمدرسة وماء الشرب وزفت الطريق، فيما الدولة تغط في سبات عميق. زعيم الطائفة هذا أب روحي سعى وعائلته، من يوم الاستقلال كي تبقى الدولة مهيضة الجناح، ليتمكن من أن يسلبها دورها وهيبتها ويعتلي الكراسي ورؤوس العمارات بصوره وطلته البهية. ونحن نسأل، لماذا لا يتبرع زعماء الطوائف لصندوق دولتهم بالأموال التي يريدون دفعها، ويتركون للمؤسسات الرسمية تنظيم حياة البشر وتمويلها؟ ما هذه الاستعراضات المقززة لمشاريع «تنموية»، طائفية، عرجاء، بدون رؤية وطنية شمولية، تزيد حياة الناس بؤسا، وظلاما، بدل أن تمنحهم أملا في الغد! وبما أن رؤساء العشائر قد شمروا عن سواعدهم الآن، وكشروا عن أنيابهم، فنحن نصدق رغبتهم، موالاة ومعارضة، بأنهم يريدون الدولة بمؤسساتها مع دحر الفساد، في حال تعهدوا جميعهم، دفع تبرعاتهم لصندوق تديره هذه الدولة بشفافية، لتتمكن من حماية البشر من تسلطهم ومنتهم، وكي يبقى المواطن في مأمن من أذيتهم المنكرة. فطالما أن النظام عشائري نفعي، سيتيح باستمرار تحويل أهل كل طائفة إلى شحاذين (لكن عصريين طبعا) وأولاد الزعامات إلى ورثة شرعيين (ولو كانوا أميين وبلهاء). فالمشكلة اللبنانية في عمقها، ليست بالتأكيد صنيعة إيران وسورية أو الولايات المتحدة الأميركية، لكنها حتما: «مايد إن ليبانون». والانتخابات المقبلة، لن تغير من واقع المواطنين الحياتي شيئا، إلا أنها ـ على الأرجح ـ ستزيده بؤسا وإذلالا.

[email protected]