باكستان والملالي المجانين في الجبال

TT

في الوقت الذي يتركز فيه الانتباه على العنف في وادي سوات والمناطق القبلية الواقعة على الحدود الشمالية الغربية، قد يكون الخطر الحقيقي الذي يهدد باكستان كامنا في مكان آخر.

إن طالبان وحلفاءها، من تجار مخدرات وقطاع الطرق، عاجزون عن تقديم مشروع سياسي، ناهيك عن مطالبتهم بالحكم في إسلام آباد. وعلى الرغم من هشاشتها إزاء فترة التحول، فإن باكستان تظل قوية بما يكفي للوقوف بقوة في وجه ملالي الجبال المأفونين. بيد أن هناك ثلاثة أخطار حقيقية تهدد الاستقرار في باكستان. أولها هو الشعور بالقلق في البنجاب، الإقليم الأكثر تعدادا للسكان بين الأقاليم الفيدرالية الأربعة التي تكوّن باكستان، والذي يقطنه أكثر من 70% من سكان باكستان.

وقد يكون من المبكر جدا الحديث عن النزعات الانفصالية في هذا الوقت. بيد أن العديد من البنجابيين يشعرون أنهم قد تم إقصاؤهم عن السلطة منذ عقد. فعلى الرغم من رفع هذا الحظر الذي فرضه الرئيس السابق برفيز مشرف على الرموز السياسية المعروفة في الإقليم بصورة جزئية الآن، فإن البنجابيين يشعرون أنهم لم ينالوا نصيبا عادلا في الحكومة المركزية. وقد يكون ذلك هو السبب وراء عدم امتلاك البنجاب الساخط العزيمةَ القوية للدفاع عن الدولة ضد التهديد القادم من الحدود الشمالية الغربية.

أما التهديد الثاني فيأتي من تجاهل الولايات المتحدة الأميركية، الحليف الرئيس لباكستان والصين، للأهمية الاستراتيجية للدولة. فقد أغضبت تصريحات ريتشارد هولبروك، الرجل الذي رشحه الرئيس باراك أوباما للاضطلاع بمهام العلاقات مع كل من أفغانستان وباكستان، الكثير من الباكستانيين عبر قرنه دولتهم مع جارتها الشمالية، حيث تحدث هولبروك عن «أفباك»، وهو اختصار يتعامل مع باكستان وأفغانستان على أنهما شخصية واحدة. وقد أبدى الباكستانيون امتعاضهم من ذلك لأنهم يشعرون أن دولتهم تقع في منزلة مختلفة عن أفغانستان، تلك الدولة الصغيرة والمحطمة.

وقد دفع الشعور بأن الولايات المتحدة لم تعد ذلك الصديق الذي يمكن الاعتماد عليه الكثيرَ من القادة السياسيين الباكستانيين إلى البحث عن حلفاء وحامين في أماكن أخرى خصوصا في المنطقة. وقد أحدث ذلك في المقابل نوعا من التنافسية السياسية في الشؤون الداخلية، وهو ما أضعف تبعا لذلك قدرة الدولة على التعامل بفاعلية مع طالبان. ولكي تزيد الطين بلة، حاولت إدارة أوباما تجاوز الرئيس آصف على زرداري لإقامة علاقات مباشرة مع الرموز السياسية والعسكرية في البلاد، وهو ما يعني إضعاف السلطة المركزية، في وقت تعد فيه باكستان أحوج ما تكون فيه إلى التمترس خلف الحكومة لمواجهة الإرهابيين. كان من الممكن تؤتي طريقة «فرّق تسُد» التي ينتهجها هولبروك ثمارها في وقت لا تواجه فيه باكستان خطر الإرهاب الدائم. لكنها قد تكون زادت الآن من حجم هذا التهديد.

أما الخطر الثالث فهو الخطر الأخطر بكل المقاييس، وهو إمكانية انقسام الجيش، المؤسسة العسكرية الرئيسة منذ الاستقلال. فقد كان صفوة الجيش الباكستاني ينقسمون ما بين ضباط متدينين وعلمانيين. وفي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات حكم الضباط الإسلاميون البلاد بقيادة الجنرال محمد ضياء الحق، لكن الضباط العلمانيين حصلوا على فرصتهم في الحكم في التسعينيات عندما استولى برفيز مشرف على السلطة. على الرغم من هذه الانقسامات ظلت نخبة الجيش الباكستاني موحدة أمام عدوهم المشترك، الهند، والرغبة المشتركة أيضا في الحصول على نفوذ في أفغانستان لتكون ممرا لها إلى آسيا الوسطي، ومن ثم منح باكستان العمق الاستراتيجي الذي تفتقده، والرغبة في الحفاظ على الجيش في موقع مهيمن على البلاد.

بيد أن تلك العوامل قد تقوضت، فالمخاوف من الهند لم تعد كما كانت عليه في الثمانينيات، لم يبقَ سوى عدد قليل ممن يعتقدون أن الهند تحمل أجندة سرية بتفكيك باكستان كعقاب لها على «خطيئتها» بالانفصال عن الهند.

ومن ناحية أخرى أدى سقوط نظام طالبان على يد القوات الأميركية إلى تدمير شبكة النفوذ التي بناها الجيش والاستخبارات الباكستانية داخل الحدود الشمالية على مدار عقدين من الزمن. وباتت الولايات المتحدة الأميركية وإيران والهند لاعبين رئيسيين في كابل.

وأخيرا، فإن العودة إلى الحكم الديمقراطي تعني تراجعا محتوما للتأثير السياسي للجيش في إسلام آباد.

إضافة إلى ذلك كله، تظل حقيقة عدم قدرة الرئيس الباكستاني آصف على زرداري على تحقيق نجاحات كبيرة في بناء صورة الرئيس القوي القادر على قيادة باكستان في هذه الأوقات العصيبة. فقد وصل زرداري إلى الرئاسة نتيجة لحادثة مقتل زوجته بينظير بوتو خلال الحملة الانتخابية التي أدت إلى تنحية مشرف. وقد حاول زرداري بناء صورة قوية له، عبر تركيزه على إنجازاته، من بينها الأعوام الأحد عشر التي قضاها في السجن على خلفية الاتهامات بالفساد. ويشبهه بعض أصدقائه بنلسون مانديلا، الذي قضى شطرا كبيرا من حياته في السجن ليصبح بعد ذلك أول رئيس لجنوب إفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري، لكن من المستبعد أن يسعد مانديلا بهذه المقارنة. لم ينته فشل زرداري عند حد رسم صورة الرئيس القوي بل امتدت إلى فشله في توحيد مناصريه التقليديين، إذ تعاني عشيرة بوتو، قاعدة قوته التقليدية، من الانقسامات هي الأخرى، حيث ينظر البعض إليه على أنه مغتصب للحكم. كما يُنظر إليه في البنجاب على أنه غريب لأنه من إقليم السند، فلم يتمكن من إتقان اللغة البنجابية، لكنه على الرغم من ذلك يُعتبر دخيلا في السند، مسقط رأسه، لأن عائلته من أصول بلوشستانية.

هناك عدد من الخطوات لا تزال باكستان بحاجة إليها لسحق طالبان. أولها ضرورة مساعدة إقليم البنجاب على استعادة الثقة في باكستان عبر الانتقال الكامل للسلطة إلى حكومة محلية منتخبة يقودها نخبة من القيادة المحلية.

وكذلك فإن هناك حاجة إلى وجود حكومة تحالف موسعة ذات قاعدة شعبية كبيرة، وقد يفضّل نواز شريف رئيس الوزراء الأسبق حينها البقاء في صفوف المعارضة، لكنه مع ذلك سيظل مرتبطا باستراتيجية قومية لحماية الدولة. وتحتاج الولايات المتحدة إلى تطوير سياسة جادة تجاه باكستان عبر فهم حساسيات الدولة والاعتراف بوزنها العسكري والسياسي والاقتصادي.

قد يكون الأهم من ذلك كله، حاجة باكستان إلى علاج نفسها من المخاوف بشأن الهند. ولا يعني ذلك التركيز على سراب الحلول العاجلة لمشكلة كشمير، فتلك المشكلة يمكن أن تظل كما هي عليه منذ ما يقرب من عقد. يجب علي باكستان بدلا من ذلك أن تسعى إلى التركيز على تطوير عقيدة دفاعية جديدة تكون فيها طالبان، وليست الهند، هي الخطر الواضح والقائم.

إن ذلك يعني إعادة ترتيب المؤسسة العسكرية التي يبلغ قوامها 600,000 عسكري. ذلك النوع من الجيش وتلك الترسانة النووية التي تملكها باكستان مصممة لحماية الدولة من الهند في سياق الحرب الشاملة. بيد أن ما تحتاجه باكستان، هو وحدات خاصة مدربة على القتال والنصر في حرب العصابات، فباكستان تنفق ربع ميزانيتها السنوية في الإعداد لحرب قد لا تحدث على الإطلاق، في حين أنها تفتقر إلى الموارد اللازمة لخوض تلك الحرب التي وقعت في أبريل (نيسان) على بعد 100 كيلومتر من العاصمة إسلام آباد.