الانتخابات اللبنانية: الإدارة والسياسة والكوابيس!

TT

قبل خمسة أيام، جاءت وزيرة الخارجية الأميركية إلى بيروت عبر العراق والكويت. وفي بيروت لم تزر غير رئيس الجمهورية وضريح الرئيس الحريري، حيث قابلت النائب سعد الحريري وتحدثت إليه لبعض الوقت أيضا. وأمام القصر الجمهوري تحدثت كلينتون عن ثلاثة أمور: سيادة لبنان واستقلاله وأن الولايات المتحدة مع الشرعية، وأهمية إجراء انتخابات حرة وشفافة وأن المحكمة الخاصة بلبنان باقية ولا صفقة عليها مع أحد.

وهكذا فقد دخلت الولايات المتحدة أيضا على خط الانتخابات اللبنانية، بعد الزيارة الخاصة التي قام بها وزير الثقافة والإعلام بالمملكة العربية السعودية إلى بيروت خلال الأسبوع الماضي.والواقع أن المعركة الانتخابية بلبنان تدور منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وأكثر الأطراف حماسا لها: الجنرال عون وتياره الوطني الحر، وخصومه من مسيحيي 14 آذار. ثم دخل النائب سعد الحريري على المشهد بقوة؛ فلم يرد على تهجمات الجنرال عون الشخصية عليه وعلى رئيس الحكومة، لكنه قال لجمهوره إن الانتخابات مصيرية، وإن تياره وقوى 14 آذار ستخوضها في كل لبنان، وإن المقصود من وراء الانتخابات تثبيت الطائف والدستور والدولة، وصون المكتسبات الاستقلالية وتطويرها. ومن ضمن ما دفع النائب الحريري باتجاهه في مناطق نفوذه: السعي لإقامة تحالف بطرابلس بشمال لبنان مع الشخصيات السنية الأخرى، ودفع الرئيس السنيورة للترشح بمسقط رأسه في صيدا إلى جانب النائب بهية الحريري، والتحالف مع الجماعة الإسلامية ببيروت، إلى جانب قوى 14 آذار الأخرى المتمثلة بالشخصيات والأحزاب المسيحية، والنائب وليد جنبلاط.

وبدا الرئيس بري والسيد حسن نصر الله غير متحمسين للانتخابات. الرئيس بري قال إن الانتخابات لن تغير شيئا، وليست أكثر من استحقاق دستوري. والسيد نصر الله الأمين العام لحزب الله اعتبرها مهمة لكنها غير مصيرية. وبدا أن حزب الله مهموم بدعم حليفه الجنرال عون، أكثر من الانتخابات نفسها. في حين بدا الرئيس بري غير متحمس لإدخال الجنرال عـون على مناطق نفوذه بالجنوب وبالضاحية، وهـي مقاعد كان يتقاسمها من قبل مع حزب الله وحده. في حين يريد الجنرال عـون ـ باعتباره الزعيم المسيحي الأوحد ـ أن يحظى بكل المقاعد المسيحية في المناطق الإسلامية الشيعية والسنية.

وما دمنا بصدد استعراض الأمزجة، قبل استعراض الخطابات؛ فإن الملاحظ أيضا أن النائب وليد جنبلاط متعكر المزاج، أو ما هو أكثر من ذلك. فمنذ شهور، بل بعد أحداث 7 مايو (أيار) 2008 مباشرة (وهي الأحداث التي احتل خلالها حزب الله والقوى المتحالفة معه مثل حركة أمل والحزب القومي السوري، بيروت، واصطدم بالدروز على أطراف مناطقهم بجبل لبنان)، يحاول جنبلاط «مصالحة» حزب الله، وإعادة العلاقة معه إلى سابق عهدها قبل استشهاد الرئيس الحريري. أما علاقته بالرئيس بري فبدت على أحسن ما يرام. وقد شنا معا حربين على الرئيس السنيورة، دارت أولاهما على المساعدات السعودية لإعادة الإعمار، ودارت أخراها على الموازنة الإضافية التي طلبها الرئيس بري لمجلس الجنوب. وعندما بدأ التفاوض بين قوى 14 آذار على المقاعد في المناطق، بدا النائب جنبلاط شديد التذمر من تصاعد مطالب مسيحيي 14 آذار بالحصول على كل المقاعد المخصصة للمسيحيين أو أكثرها في مناطق نفوذه؛ شأنه في ذلك شأن الرئيس بري مع الجنرال عون. لكن وبعد أن سويت أكثر الإشكالات، أو هذا هو ما بدا ظاهرا، جدد النائب جنبلاط انتقاداته للمسيحيين الموارنة، وللدروز من بني قومه (الذين قال إن شبابهم غادروا العروبة وينبغي إعادتهم إليها!)، وللقيادات السنية ( باعتبار أنهم هم الذين اعتدوا على حزب الله من قبل، وليس العكس!). وبالرغم من أن وليد بك صمت في الأيام الأخيرة صمتا مطبقا، فالمفهوم أن تصريحاته (وأحاديثه في الجلسات الخاصة) تركت آثارا سلبية في صفوف حلفائه، وأثارت أفراحا في الأوساط الإعلامية لقوى 8 آذار.

ولنعد إلى الخطابات التي يجري التقاذف بها. فالرئيس بري والنائب وليد جنبلاط وبعد حملاتهما على الرئيس السنيورة، خرجا من السجال بالقول إن المهم هو ما بعد الانتخابات بغض النظر عن نتائجها! والوزير غازي العريضي من كتلة جنبلاط تنبأ بتفكك معسكري 14 آذار ثم 8 آذار. في حين دار السجال بين باقي أطراف 8 آذار و14 آذار حول اتفاق الدوحة، الذي أنتج الحكومة الحالية، وقانون الانتخابات الجديد. حزب الله وعون وأنصار سورية اعتبروه اتفاقا مصيريا؛ ولذلك فإن نتائج الانتخابات لن تغير شيئا فيه لجهة تشكيل الحكومة المقبلة (أي إقامة حكومة وحدة وطنية مع ثلث معطل للأقلية بمجلس النواب). وقوى 14 آذار وبخاصة النائب سعد الحريري والرئيس السنيورة رأيا أن اتفاق الدوحة مؤقت وكانت له ظروفه الاستثنائية الناجمة عن الدخول إلى بيروت والجبل بالسلاح. والانتخابات هي الحاسمة الآن؛ فالأكثرية هي التي تشكل الحكومة؛ في حين تمضي الأقلية إلى المعارضة، كما في الأنظمة الديمقراطية. وأضاف السنيورة أن الحديث عن حكومة وحدة وطنية مختلف عن الحديث عن حكومة بثلث معطل كالحكومة الحالية. إذ يجوز بعد الانتخابات أن تشارك كل القوى السياسية في حكومة وطنية للضرورات، لكن من دون ثلث للتعطيل؛ ذلك أن التجربة الحالية ثبت فشلها، فالحكومة عاجزة عن اتخاذ أي قرار مهما صغر منذ ستة أشهر. وأكبر دليل على ذلك إقرار الموازنة العامة للدولة للعام 2009 وهو أول واجباتها؛ إذ إن أحزاب 8 آذار التي لديها ثلث +1 في الحكومة حالت دون إقرار الموازنة بالرغم من كل التنازلات. بسبب مطالب الرئيسين بري وعون غير المعقولة!

وقد ظل الخطاب الانتخابي بشكل عام أسير الجدل السالف الذكر، أي موقع الانتخابات في التغيير والإصلاح السياسي. وفي العادة ما كانت اللهجة صارخة ومثيرة إلا من جانب الجنرال عون كل يوم تقريبا، وضد الرئيس السنيورة أو النائب سعد الحريري بشكل شخصي، أو ضد أطراف 14 آذار بشكل عام (من جانب مرشحي حزب الله)؛ إذ اتهموهم في المهرجانات الانتخابية، وفي المحطات التلفزيونية الكثيرة التي تسيطر عليها المعارضة بأنهم تابعون لأميركا وإسرائيل، وأن الأخيرتين انهزمتا فلذلك سينهزمون هم أيضا تبعا لمصائر أسيادهم! وعندما جاء وزير الإعلام السعودي إلى لبنان حمل عليه النائب أسامه سعد وعلى المملكة لانحيازها إلى خصمه الرئيس السنيورة (ثم ما لبث النائب المذكور أن تراجع في اليوم التالي). بيد أن الرئيس بري وحزب الله أظهرا انزعاجا شديدا أيضا من ترشح السنيورة في صيدا، لأنها من وجهة نظرهم «بوابة الجنوب»، وينبغي أن يظل نصفها لهم! ويذهب المراقبون إلى أنه لن تكون هناك تغيرات بارزة في المناطق الشيعية والسنية والدرزية. وإنما تنتظر التغييرات في المناطق المسيحية الخالصة، التي كان الجنرال عون وحلفاؤه قد سيطروا عليها في انتخابات عام 2005. فهناك نزاع شديد الآن على تلك المناطق بين عون ومسيحيي 14 آذار. وقد اختلف النائب ميشال المر (حليف عون السابق في المتن الشمالي) مع عون، وتحالف مع قوى 14آذار، في حين استقل سليمان فرنجية (حليف سورية الأبرز) في قضاء زغرتا، ورفض إنزال مرشح لعون معه.

هل هناك اهتمام إقليمي ودولي بالانتخابات اللبنانية؟ حتى الآن لا تزال العوامل والعناصر المحلية هي البارزة. لكن بعض الأوروبيين والإسرائيليين أظهروا خشية من زيادة قوة حزب الله نتيجة الانتخابات. وقد أثرت في ذلك إلى حد ما الكشوفات المصرية عن تنظيم للحزب داخل مصر. كما أثرت أيضا الحكومة اليمينية الإسرائيلية التي لا سقف لها غير الحرب، لحديثها المستمر عن الخطر الإيراني النووي، وخطر صواريخ حزب الله، وسلاح حماس. ثم إن مجيء وزيرة الخارجية الأميركية إلى بيروت، وبالرغم من حديثها المنضبط، يدل على أن هناك درجة معينة من الاهتمام بما يجري في لبنان، وبتطور علاقات لبنان بسورية. إنما الواضح عربيا ودوليا هو الاتجاه لتقوية رئيس الجمهورية وشرعيته، وشرعية الجيش اللبناني الذي هو قائده الأعلى. وقد يعني ذلك إضعافا للجنرال عون، والكتل الكبيرة الأخرى، لكن ليس لأنصار سورية الآخرين.

ويوم الثلاثاء 28 أبريل (نيسان) الماضي، نشرت جريدة السفير اللبنانية تقريرا لمراسلها من واشنطن جو معكرون، جاء فيه أن هناك سعيا أميركيا لإقصاء «الراديكاليين» في لبنان أو تصغير حجمهم في الانتخابات النيابية. ولصالح تشكيل «كتلة رئاسية» بعد الانتخابات تضم بري وجنبلاط وميقاتي والصفدي (وميشال المر)، وتحظى بدعم سورية، وتلتف حول رئيس الجمهورية، ويكون ميقاتي رئيسا للحكومة بدلا من أن يأتي من تيار المستقبل(الحريري أو السنيورة). فيكون الراديكاليون المقصيون أو المصغرة أحجامهم هم: الجنرال عون، وحزب الله، وسعد الحريري! وهكذا فإن الانتخابات اللبنانية قد لا تكون فيها «أحلام» وحسب؛ بل كوابيس أيضا:

ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال