الرئيس الأكثر استقطابا

TT

من هو الرئيس الجديد الأكثر استقطابا في الآونة الأخيرة: ريتشارد نيكسون؟، أم رونالد ريغان؟، أم جورج بوش؟. كلا، لا هذا، ولا ذاك. لقد حظي بهذا الشرف باراك أوباما. وبحسب نتائج الاستطلاع الذي أجراه مركز بيو للأبحاث؛ كانت الهوة بين معدلات موافقة الجمهوريين والديمقراطيين على بوش خلال الأشهر الأولى لتوليه منصب الرئاسة 51 نقطة مئوية. أما بالنسبة إلى أوباما، فقد توقفت تلك الهوة عند 61 نقطة، وقد كان أوباما موحدا ومدعوما من كلا الحزبين، وقد وحد الديمقراطيين، ووحد الجمهوريين ضد بعضهم بعضا. ويشير مركز بيو إلى أن هذا اتجاه طويل الأمد، فمنذ عقود مضت كانت غالبية الجمهوريين يوافقون على أداء نيكسون في أولى فتراته الرئاسية، وكذلك فعلت غالبية الجمهوريين بالنسبة لجيمي كارتر، لكن ذلك لم يتأتَّ لرئيس بعد ذلك.

ويشير رون براونستون مؤلف كتاب «الحرب الأهلية الثانية» إلى عدد من الأسباب البنيوية للاختلاف الكبير، فقد كان هناك تمييز للأحزاب السياسية، جعل كلا منها يتخذ لنفسه صبغة أيديولوجية، كما أذكت الحملات الرئاسية الطويلة والكريهة من اختلافاتنا، وباتت المنابر الإعلامية أكثر حزبية، وتنامت أعداد جماعات المصالح الأيديولوجية، وتغيرت أدوار قادة الكونغرس؛ مما سهل من عملية فرض الالتزام الحزبي.لكن أوباما كان يُفتَرَض به أن يكون ترياقا لتلك العصبية الحزبية، فخلال الحملة الرئاسية قال كبير الاستراتيجيين ديفيد اكسيلورد براونستون «إذا كانت هناك غالبية ديمقراطية كبيرة، فأعتقد أن ذلك سوف يدفع إلى إحساس خاص بالمسؤولية، وأن يحاول أن يشكل تحالفات حول تلك الإجابات، ليس لأننا غير قادرين على فرض إرادتنا على عدد من القضايا، ولكن لأن الحكومة الفاعلة تتطلب ذلك على المدى البعيد». ذلك الأمر هو ما جعل التصويت الذي جرى على قرارات الميزانية إشارة بارزة إلى الإدارة العاجزة، إذ إن الأعضاء الجمهوريين، سواء في مجلس الشيوخ، أو مجلس النواب لم يدعموا مشروع القانون، لأن الأغلبية الديمقراطية فرضت إرادتها، ولم تعمد إلى التشاور مع الجمهوريين، بل تجاهلتهم. يتحدث القادة الديمقراطيون عن إقرار عناصر مثيرة للجدال في الميزانية عبر عملية «المصالحة» التي تتطلب موافقة 51 عضوا من مجلس الشيوخ، وليس 60، كما هي العادة لتمريرها. ولذا، فإن كلمة «مصالحة» تشير في واشنطن إلى صيغة من الحرب الحزبية. إن الميزانية من دون مشاركة الجمهوريين لن تكون أكثر من صورة كاريكاتيرية للضرائب والإنفاق. وقد اشتكى أوباما من إرث الدين الذي بلغ 1.3 تريليون دولار. وبحسب ما ذكره الاقتصادي مايكل بوكسين، فإن مقترحات أوباما ستضيف ديونا تقدر بـ 6.5 تريليون دولار خلال العقد المقبل، أي ما يعادل 163,000 دولار لكل عائلة أميركية تدفع الضرائب.

إنني بطبيعتي لست أحد صقور عجز الميزانية، فالحكومة يمكن أن يكون لديها عجز مسؤول في الميزانية في اقتصاد متنام، لكن أوباما اقترح مستوى من الدين غير مسؤول على الإطلاق، جعل الضرائب أمرا لا مفر منه تقريبا، وزادت من اعتمادنا على الصين مسؤول القرض الأميركي. وزاد من الضغوط على الحكومة لشراء أو تحويل الديون إلى سيولة نقدية، الأمر الذي سيؤدي إلى التضخم. ولن يقبل أي من الجمهوريين، حتى المعتدلين منهم، ميزانية تضع الولايات المتحدة في دين دائم عبر تجنب وضع أولويات حقيقية، ولم يفعل أي منهم داخل الكونغرس.

هناك نقاش حول الاستقطاب السياسي، وفرانكلين روزفلت وريغان كانا لديهما القدرة على الاستقطاب، لأنهما كانا من الرؤساء الطموحين، ولأنهما اعتقدا أن بعض الأهداف الوطنية تستحق التضحية بالصداقة، فالقائد الحازم قد يكون مسببا للاختلاف في بعض الأحيان. لكن طريقة الاستقطاب التي ينتهجها أوباما تتحدى وتغاير لب هويته السياسية، إذ تخاطب رسالته وسلوكه المعتدل دولة منهكة بالشقاق والطموح.. دولة تطلب الآن جولة أخرى منهما، لكن أجندة أوباما الداخلية نموذجية لا تشوبها شائبة، فقد كان سيناتورا ليبراليا، قفز فجأة إلى قمة السلطة. كان يمكن أن يكون أسهل نسبيا بالنسبة للرئيس أوباما أن يشق التحالف الجمهوري، وأن يأتي بالجمهوريين الأقل تعصبا حزبيا، والذين يملكون رؤية حقيقية. وقد كان الكثير من الجمهوريين مستعدين لقبول عجز ميزانية قصير المدى، لتحفيز الاقتصاد في مقابل المسؤولية المالية طويلة الأمد. كان من الممكن لأوباما أن يركز بصورة أعمق على حل المشكلات المالية ـ التي تعتبر الأساس بالنسبة للانتعاش الاقتصادي ـ وأن يؤجل طموحاته إلى وقت أكثر واقعية. خلال تلك العملية كان من الممكن أن يحصل أوباما على بعض الجمهوريين ليشاركوه المخاطر السياسية، بدلا من معالجة الآلام على الهامش.

الاستقطاب في السياسات الأميركية له زخمه المثير للقلق، ساعده في ذلك بعض الأصوات الجمهورية العالية، لكن ذلك لا يتطلب رئيسا يزيد من سوء ذلك. وإنه لمن المحزن والمخجل أن يتحول باراك أوباما مرشح الوحدة إلى مصدر آخر للفرقة.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»