الوفاء بالنذر

TT

قبل عدة أعوام، انطلقت في رحلة بالطائرة إلى (الدار البيضاء) في المغرب، وبعد مضي ما يقارب الساعة والنصف، وبينما كنت مسترخيا على مقعدي بأمان الله، وأفكر بالأيام القادمة، وإذا بأصوات تتعالى وجلبة تتناهى إلى سمعي ومصدرها آت من مؤخرة الطائرة.

وأول ما خطر على بالي أن هناك عملية اختطاف قد حصلت للطائرة، ويجب عليّ أن أتصرف. أخذت أتلفت يمينا وشمالا للبحث عن مكان مناسب وآمن للاختباء فيه، غير أن تلفتاتي كلها باءت بالفشل، عندها أسقط بيدي وتيقنت أنني هالك لا محالة، وبدأ العرق البارد يتصبب من جبيني، وبدأت ركبي (تتصافق) ثم تلتها أقدامي وأكتافي وحتى رأسي، كلها ابتدأت بالارتجاف العنيف.

وهالني منظر المضيفات وهن يتقافزن ويتراكضن مسرعات، وفكرت أن أتعلق بثياب واحدة منهن لأتيقن من الخبر، وبعد جهد جهيد وشجاعة متأخرة استطعت أن أنتزع جسدي المرتجف من فوق الكرسي، وأتجه بخطوات مترنحة للخلف، وإذا بي أشاهد مجموعة متكدسة بينهم امرأة صوتها يشق عنان السماء، ودرءا لنفسي عن الخطر، قفلت راجعا لمكاني بسرعة.

غير أن اضطرابي وخفقان قلبي أخذ يزداد، وأخذت أفكر بالعديد من الاحتمالات، وكلها احتمالات لا تسر، منها مثلا: فقد تتفجر الطائرة في الجو نتيجة لعدم تنفيذ مطالب الخاطفين، أو يستطيع أن ينجح الخاطفون بالاستيلاء على الطائرة ثم يقودوها ويصطدموا بها في إحدى العمائر العالية، تأسيا بمجانين (11 سبتمبر)، عندها سوف أقتل مع الآخرين.

وأخذت الأفكار والهواجس تتالى عليّ: صحيح أنه مثلما يقول البعض: إن الموت مع الآخرين رحمة، ولكنني لا أريد أن أموت في (هذا الوقت بالذات) لا مع الآخرين ولا لوحدي منفردا.

فأنا أريد أن أعيش من سويداء قلبي، لأنني مقبل على الحياة غير مدبر، ووضعي مستقر وهو في أحسن حالاته، ويطمح للمزيد من السعادة والمغامرات المشوقة غير المؤذية.

وتخيلت كيف سوف يستقبل أهلي وأصدقائي ومعارفي نبأ مقتلي الذي لم يكن في ساحة الوغى، وبعضهم سوف يبكي، وبعضهم سوف يضحك، وبعضهم سوف يرتاح ويوزع (الشربات).

وفي هذه الأثناء وإذا بأحد المضيفين يمر بجانبي فأمسكت بذراعه بقوة قائلا له: ألا يوجد بالطائرة حراس لمكافحة الإرهاب؟! فتراجع للخلف قليلا وهو يقول لي: فال الله ولا فالك، إرهاب إيه اللي أنت بتحكي عليه؟! سألته: إذن ما هو سبب التعارك الذي يحصل في مؤخرة الطائرة.

فرد عليّ وهو يضحك قائلا: صحيح أنك (رعديد)، الحكاية وما فيها يا مولاي خير، فهناك امرأة حامل قد جاءها المخاض، وهي الآن تطلق وعلى وشك الولادة، والمضيفات يحاولن أن يساعدنها على ذلك.

عندها تنفست الصعداء دفعة واحدة.

ووقفت من مكاني بكل شجاعة، ورحت أخطو خطوات واثقة، ووقفت في مكان غير بعيد من مكان الولادة، ولأول مرة أسمع صراخ امرأة تتولد، إن صوتها ذكرني بصوت (طرزان)، وما هي إلا دقائق حتى صمتت، لينطلق بعدها صوت مولودتها وقد فتحت (جاعورتها) على الآخر.

واجتاحت الطائرة عاصفة تصفيق من جميع الركاب وكنت من أولهم، ونذرت في وقتها أنني إذا وصلت سالما إلى الأرض، سوف أرقص في تلك الليلة احتفاء بمولودة الطائرة.

ونفذت وأوفيت بنذري حتى ساعة متأخرة من الليل.

[email protected]